بدأت الحكاية على شكل اعتذار تبلغته السفارة البريطانية في موسكو صبيحة يوم الرابع من ايار مايو 1937، يفيد بأن الماريشال ميخائيل كوفاتشفسكي، لن يتمكن لاسباب صحية من التوجه الى لندن لحضور حفل تتويج الملك جورج السادس. يومها لم يتنبه احد الى حقيقة ما يحدث. ولكن بدأت الامور تتخذ صورتها الحقيقية بعد ذلك باسبوع حين اعلنت الحكومة السوفياتية ان وحدات الجيش الاحمر قد وضعت منذ الآن تحت قيادة ضابط كبير بديل لتوخاتشفسكي يساعده مفوض للشعب لشؤون الجيش. وفي الوقت نفسه أشار الاعلان الى ان العدد الاكبر من قيادات الاركان قد بُدل وان الماريشال الاشهر في الجيش السوفياتي توخاتشفسكي هو "خصوصاً" من نيطت به قيادة مقاطعة الفولغا العسكرية وهي مقاطعة ثانوية الاهمية. فما الذي حدث بعدئذ؟ بكل بساطة، تمّ القبض على الماريشال فيما كان مستقلا القطار الذي كان من المفروض به ان يقله الى مكان عمله الجديد. توخاتشفسكي لم يستسلم بسرعة بل انه حاول المقاومة لكن رجال البوليس السري تمكنوا من الامساك به بعد ان جرحوه واخضعوه لتحقيقات مكثفة، في الوقت الذي كانت الصحف الحزبية تشن هجوماً عنيفاً على قيادات الجيش الاحمر، هذا الجيش الذي كان، وكما يعرف ستالين جيداً، الطرف الوحيد القادر على مقاومة الطاغية والقيام بانقلاب عسكري ناجح وايقاف عمليات القمع التي تسود طول الاتحاد السوفياتي وعرضه. بعد ذلك بأقل من خمسة اسابيع تمّ تنفيذ حكم الاعدام بتوخاتشفسكي، الذي كان يلقب بالقيصر الاحمر، وكان معروفاً بكونه اكبر المسؤولين العسكريين السوفيات شعبية. ولئن كان المخرج الروسي الكبير نيكيتا ميخالكوف قد قدم في فيلمه "الشموس الخادعة" حكاية شبيهة بحكاية ذلك الماريشال فان ما لم يتمكن الفيلم من قوله هو الخلفيات السياسية لتلك الحكاية. فالحال ان توخاتشفسكي قد حوكم بالفعل، وطوال ثلاثة أسابيع تلت اعتقاله، وكانت التهمة الموجهة اليه هي التآمر ضد أمن الدولة والتحضير لانقلاب عسكري بالتواطؤ مع ألمانيا، وتسليم هذه الاخيرة العديد من الوثائق السرية. وكان في رفقة توخاتشفسكي في تلك المحاكمة ثمانية من كبار ضباط الجيش الاحمر. اما الوثيقة الرئيسية التي تم الاعتماد عليها لصياغة الاتهام، فكانت رسالة قيل ان توخاتشفسكي كتبها وتتضمن ما يشبه الاعتراف، وهي رسالة سلمها ادفارد بيتيش، رئيس تشيكوسلوفاكيا الى ستالين، ولكن ثبت لاحقاً ان المخابرات السرية الهتلرية هي التي وضعتها، وان المخابرات السوفياتية كانت اصلاً على علم بان الرسالة مزوّرة. ولكن كان من الواضح، ومنذ محاكمة راديك ، ان ثمة تطهيراً جذرياً سوف يطول القيادات العسكرية السوفياتية، وسيطول بشكل خاص توخاتشفسكي الذي كان معروفاً بشعبيته الكبيرة، منذ الانتصار الهائل الذي حققه على بحارة كرونشتادت، يوم كان من المعتقد ان تمرد هؤلاء البحارة قد يكون من شأنه ان يقضي على السلطة السوفياتية. وكان ذلك التمرد قد حدث في ربيع 1921، وطال بحارة كان تروتسكي يعتبرهم "فخر الثورة ومجدها"، وهم اذ تبنوا شعار "كل السلطة للسوفيات" شكلوا يومها مجالس سرعان ما وجدت نفسها على تعارض حاد مع السلطة المركزية في موسكو، وكاد تمردهم ينجح لولا ان توخاتشفسكي قاد قوات تمكنت من القضاء عليهم بعد ان عبرت خليج فنلندا في التفاف أوصلها الى كرونشتادت، فاستسلم البحارة بعد مقتل العديد منهم، خاصة وان قياداتهم هربت الى فنلندا بسرعة. منذ تلك اللحظة صنعت اسطورة القائد توخاتشفسكي وشعبيته، وخلال الاعوام التالية، بات ستالين يخشاه رغم ولائه المعلن. ومن هنا حيث صارت بارانويا ستالين تشعره بان اي شخص، حزبيا كان او عسكريا، يحبه الناس، سيكون كفيلاً بان يطيحه، كان لا بد لتوخاتشفسكي من ان يقع في براثن الوحش. هكذا دبرت له تهمة التواطؤ مع الألمان، فاعتقل وحوكم، وكانت محاكمته متكتمة دارت وسط قاعة مغلقة منعت الصحف من ان تعلن عنها شيئاً. وفي النهاية، يوم 9 حزيران يونيو اي قبل ثلاثة ايام من اعدامه، وفي الوقت الذي كان الحكم في طريقه لان يصدر عليه، عزل توخاتشفسكي من مناصبه العسكرية كلها، وأعلنت صحيفة "البرافدا" ان ملف التهم قد أحيل الى محكمة عسكرية خاصة تابعة لمحكمة أمن الدولة. وكان رئيس تلك المحكمة هو فاسيلي اولريخ، الذي كان يكن عداء شخصياً وعنيفاً لتوخاتشفسكي، عداء كان في حد ذاته يكفي للتكهن بما سيكون عليه مصير المتهم. وبالفعل كانت الساعة الثانية من بعد ظهر يوم 11 حزيران، حين اعلن عن الحكم على الماريشال بالاعدام رميا بالرصاص، وبعد ساعات، عند فجر اليوم التالي، اعدم توخاتشفسكي، وكان اعدامه بداية لسلسلة من عمليات التطهير التي طالت قيادات الجيش. ومنذ تلك اللحظة لم يعد ذلك الجيش مهتماً بانتقاد ستالين او بالتفكير بالحلول محله.