تعود أزمة اقليم كوسوفو، بكل جوانبها وتعقيداتها، إلى موقفين متناقضين، أحدهما صربي ينطلق من أن هذا الحيز جزء من أرضه وبلاده وله الشرعية في حمايته بكل الوسائل المتاحة، والموقف الآخر ألباني يسعى إلى الانفصال من خلال الزخم الذي توفره له الغالبية السكانية التي يتمتع بها في الاقليم. وتطورت المشكلة نحو تلاشي أجواء التفاهم بين الطرفين وضياع مقومات الحل الوسط، وتوسعت الأحقاد منذ انهيار يوغوسلافيا السابقة العام 1992. وبمرور الأيام تعاظم شأن القوى المراهنة على الحسم العسكري، فانجرفا نحو الحرب، التي لم تعد مقتصرة على هجوم القوات الصربية على المقاتلين الألبان، بل امتدت مضيفة أزمة لاجئين تتزايد المخاوف من أن تغدو شبيهة بالمأساة التي لا تزال البوسنة - الهرسك تعاني من نتائجها. الموقف الدولي ظل الموقف الدولي من مشكلة كوسوفو غامضاً، ما جعل بعض المراقبين يعتبرونه تأجيلاً للحل بانتظار وقت البت نهائياً لصالح الصرب ضمن مساومات واسعة لقضايا المنطقة. إلى ذلك كانت المواقف الدولية المعلنة متفاوتة بشكل كبير في شأن التعامل مع المشكلة، نتيجة خلافاتها القائمة على أولوية مصالحها، فانصرفت الجهود المستخدمة إلى التصريحات الحماسية والتحذيرات الجوفاء، وغابت الاجراءات التي يقتضي انسجامها مع مصاعب الأزمة، بما يقود إلى تهدئة التوتر وتوفير أجواء ملائمة لاجراء مفاوضات تستند على عروض لحلول وسطية واضحة. ولا تخفي أقوال قادة الولاياتالمتحدة ودول أوروبية عدة تعاطفها اللفظي مع مطامح السكان الألبان في كوسوفو. لكن حقيقة هذه المشاعر تبدو مبهمة عندما تحتدم في معارضة صريحة لهدف قيادات هؤلاء السكان، وهو الاستقلال خشية ان يصبح هذا الهدف سبيلاً تحتذي به أقليات أخرى في البلقان التي لا يخلو منها بلد في المنطقة، ما يسفر عن حال معلنة من فوضى التطرف وطغيان العنف يصعب كبح جماحها. وتفيد المعلومات عن وجود نحو 600 منظمة متطرفة تنشط في البلدان البلقانية. خيّم الغموض على لقاء الرئيس الأميركي بيل كلينتون ووزيرة الخارجية مادلين أولبراين مع وفد ألبان كوسوفو بزعامة ابراهيم روغوفا، لأن ما أعلن عنه اقتصر على مضاعفة المساعدات للقيادات الألبانية التي ستصبح أكثر من 13 مليون دولار سنوياً، وهو اجراء لا أهمية له عندما يوضع في خضم المشكلة الملتهبة الخاصة بتصاعد أوار الحرب وغياب الحل الضروري لها. وتفيد المعلومات أن مهمة الحلف الأطلسي المعتمدة على وجود ألبانيا ومقدونيا في برنامجه للشراكة من أجل السلام، ستقتصر على "حماية الدولتين ضد انتشار أعمال العنف إلى أراضيهما من خلال السيطرة على المناطق الحدودية مع كوسوفو" ما سيقطع الامدادات الخارجية عن جيش تحرير كوسوفو ويضعف قدراته القتالية، وحتى لو اتسع هذا الوجود العسكري الدولي، فإنه لن يتجاوز جنوب الاقليم وغربه المحاذيان للحدود مع ألبانيا، لأن القوة الأطلسية المقترحة لن تتعدى عشرة آلاف جندي، تساهم الولاياتالمتحدة ب 1500 فرد منهم، وهو عدد غير مناسب للسيطرة على الاقليم الذي مساحته 10887 كيلومتراً مربعاً ويتميز بكثرة جباله وغاباته. وان زيادة القوة إلى 23 ألفاً وهو أقصى المتداول، لا يبدو كافياً أيضاً، إضافة إلى مصاعب توفيرها، آخذ في الاعتبار أن قوام القوة التي يقودها الحلف في البوسنة يبلغ 34 ألف جندي وتشارك فيها 30 دولة، غالبيتها طالبت بتخفيض مشاركتها وألحت على تحديد وقت انسحابها. وازاء هذه الحال، فإن قوة الحلف الأطلسي ستوضع في خدمة هذف بلغراد الذي لا يمانع في تقسيم كوسوفو إلى شطرين، شمالي صربي وجنوبي يلتحق بألبانيا، وتفرض تطهيراً عرقياً شاملاً يفقد ألبان الاقليم حق القرار في شؤونهم الذاتية، ويصبح وضعهم مشابهاً لمل حل بمسلمي البوسنة، الذين فوضوا أمرهم إلى الإدارة الأميركية، فقسمت البوسنة إلى نصفين، أحدهما هيمن الصرب عليه، والآخر مسلم - كرواتي توزع في أجزاء منه نصف عدد مسلمي البوسنة جاهلين مكانهم الآمن فيه، بينما اثر النصف الآخر منهم البحث عن ملاذ في الخارج. ولم يستبعد القائد العام للحلف الأطلسي في أوروبا الجنرال ويسلي كلارك 22/5/1998 أن ينطوي نشر قوات الحلف في مناطق البانيا الحدودية مع كوسوفو "على مجازفة كبيرة بسبب وعورة الأرض وعدم ترحيب السكان بالحاجز الذي ستقيمه، خصوصاً أنه لا توجد سلطة حكومية فعالة لألبانيا في هذه المناطق". القوى الراهنة تبرز بين ألبان كوسوفو حالياً قوتان، سياسية تمثل الوجه الظاهري للحركة الوطنية الألبانية فقدت الكثير من تأثيرها الداخلي نتيجة خيبتها في تحقيق قراراتها على مدى سبع سنوات على رغم التضحيات الشعبية التي ذهبت هباء بالاعتماد على وعود أجنبية. وفي سؤال "الحياة" للزعيم الألباني ابراهيم روغوفا عن كيفية الوصول إلى الاستقلال في وقت يبدو الحكم الذاتي غير ممكن؟ أجاب ان أميركا ودولاً غربية تعهدت بذلك، من دون أن يخفي قناعته بأن هذه الدول ليست مستعدة لمنازلة الصرب عسكرياً من أجل هدف لا يتمتع بالحماس خارج الإطار الألباني. ويشكل القوة البارزة الأخرى جيش تحرير كوسوفو، الذي استطاع في فترة عام تنظيم حركة مقاومة ميدانية على رغم العزلة التي تفرضها مختلف الأطراف على هذه القوة التي تعتبرها القيادات السياسية الألبانية غير موجودة وان "شهرتها قائمة على تقمصها المقاومة الشعبية العفوية الرافضة للعنف الصربي"، بينما يتذرع الصرب بها لتوجيه ضرباتهم المدفعية على القرى الآمنة بذريعة أنها "جماعات ارهابية" ويتجنب المجتمع الدولي التعامل معها لأنها "متطرفة" لا يمكن ان تكون بديلاً للفئات "المعتدلة". وتشير الصورة الواقعية الراهنة إلى أن المقاتلين الألبان الذين يقودهم جيش تحرير كوسوفو، يتحركون بحرية في غالبية المناطق الداخلية بفضل التأييد الذي يلقونه من السكان المحليين، إلا أن هذه المقدرة لم تصل حد التحكم في مساحات من الأراضي وتشكيل إدارة "محررة" فيها، ما جعل هذا الوضع وبالاً على المدنيين الذين أصبحوا في مرمى "سياسة الأرض المحروقة" الصربية بذريعة "اجتثاث شأفة المسلحين المتمردين" فأصابهم القتل والتشريد، خصوصاً في الأقسام الغربية القريبة من الحدود مع البانيا التي يسعى كل طرف السيطرة عليها، لما لها من أهمية في قضية الدعم القتالي للألبان. القرار المفقود تعمل الجهود الدولية على ترويض الجانب الألباني وحضه على القبول بحل وسط، في كل الأحوال، يقضي على هدفه الانفصالي، وهو ما تقاومه التشكيلات المسلحة الألبانية التي غدت قادرة على اجهاض أي عرض تعتبره استسلاماً ما دام يلا يلبي أقصى ما تصبو إليه غالبية الألبان بالتخلص من كل ارتباط جغرافي في صربيا، وفرض واقع جديد بتحقيق الأمل القائم على توحد كوسوفو مع البانيا المجاورة، وإن حاولت القيادات السياسية التستر عليه حالياً ومرحلياً بمشاريع "الاستقلال والحياد" التي لا تغير من أسس المشكلة الرئيسية باستنادها على تنفيذ الانفصال. ويظهر الصرب استعدادهم لتقديم تنازلات بالحد الذي يوفر حكماً ذاتياً محدوداً، لا يقترب من سيطرتهم المطلقة على المجالات الأمنية والقضائية التي تمنحهم امتلاك زمام الضرب بشدة لاحتواء أي تحرك باتجاه الانفصال. ويبدو أن بلغراد تسعى من الحملة العنيفة التي تنفذها حالياً إضعاف الموقف التفاوضي للقيادات السياسية الألبانية من خلال كسر شوكة الكفاح المسلح الألباني الذي يثير الرأي العام العالمي، وتغيير الخريطة الديموغرافية ولو نسبياً في الاقليم، وتصعيد المشاكل التي تعاني منها البانيا عن طريق اغراقها باللاجئين وارغامها على وقف التسهيلات التي يعتقد أن تيرانا تقدمها عبر أراضيها للمجموعات الألبانية المسلحة. وتتفق التقويمات الراهنة على أن الحل لأزمة كوسوفو لن يتأتى سريعاً، إذ لا يتوقع أحد ان تتنازل صربيا عن كل الاقليم وتترك الألبان يقررون مصيره، كما لا يمكن ان يسمح جيش تحرير كوسوفو باستقرار أي اتفاق لا ينص بوضوح على الاستقلال، أما ما يجري طرحه في الوساطات الدولية من أمور تتعلق بالحكم الذاتي أو منح كوسوفو وضع جمهورية لا يحق لها الانفصال في إطار الاتحاد اليوغوسلافي الجديد فهي تفتقر إلى منفذ يؤدي إلى الحل، لأنها تصطدم بالجوانب المعقدة للصراع المفتقر إلى أي نوع من نقاط الالتقاء للانطلاق منها في مسيرة شاقة وطويلة للمفاوضات. وأصاب الديبلوماسي الأميركي المخضرم في شؤون البلقان ريتشارد هولبروك الهدف، حين أفاد 7/6/1998 بأن "أزمة كوسوفو أخطر من حرب البوسنة"، غير آبه بأعلام بلاده التي يرفعها الألبان في تظاهراتهم، لعلها تحقق لهم أحلامهم.