يقف الطرفان: الصربي والألباني، المتنازعان في أقليم كوسوفو، على شفير أخطر مواجهة بينهما، ما اعتبرته صحيفة "بليس" الصربية المستقلة في توقعاتها بأنه "نذير شؤم يبعث على زيادة الخشية من حرب ضروس بلقانية أخرى في العام الجديد". جميل روفائيل يلقي الأضواء: ظل الصراع في كوسوفو متسماً بالمناوشات الموضعية والتهديدات الحذرة خلال السنوات الثمان الماضية، التي اعقبت إلغاء حكومة بلغراد بتوجيه من رئيس رابطة شيوعيي صربيا آنذاك سلوبودان ميلوشيفيتش الحكم الذاتي الواسع الذي كان يتمتع به هذا الاقليم، لكن الحال شرع بالتبدل منذ أواسط العام الماضي، إذ أخذ الألبان، وخصوصاً شبابهم، يعبرون عن الملل من اسلوب "الحرب الباردة" الذي درجت عليه قيادتهم بزعامة إبراهيم روغوفا، الساعية إلى تحقيق هدف الاستقلال بالوسائل السلمية وحدها، مراهنة في الصمود الداخلي على الظروف الناجمة عن انهيار يوغوسلافيا السابقة والنكسات التي مني الصرب بها، ومعتمدة في العون الخارجي لنهجها على مساندة اللوبي الألباني الواسع الانتشار وما يوفره من مساعدات مادية ومتابعات اعلامية وتعاطف دولي. ووفق المواقف المعلنة، فإن صيغة الحكم الذاتي لم تعد مقبولة لأي من الطرفين المتواجهين في كوسوفو، إذ يريد الألبان الاستقلال التام وهم يستندون في ذلك إلى أن الاقليم كان في وضع وحدة متمتعة بغالبية خصائص الجمهوريات في يوغوسلافيا السابقة ما يجعله محقاً بمجاراتها في تقرير المصير، خصوصاً أن الألبان يشكلون نحو 90 في المئة من مجموع سكان الأقليم البالغ عددهم مليوني نسمة وأن غالبيتهم عبرت عن رأيها إلى جانب خيار الاستقلال في الاستفتاء العام الذي جرى تنظيمه من جانب واحد عام 1991. أما الصرب، فإنهم يعتبرون كوسوفو أسوة بأي جزء آخر من بلادهم،. ويعتمدون في ذلك على أن الاقليم كان محسوباً من الناحية الإدارية في عهد يوغوسلافيا السابقة داخل أراضي جمهورية صربيا. وهو ما ينطبق عليه العرف الدولي بعدم جواز تغيير الحدود الخارجية لدولة مستقلة، وتلتزم أوروبا وأميركا جانب الصرب في هذا الموقف، إلا أن هذا الالتزام مشروط بالتأكيد على وجوب توفير إدارة ذاتية خاصة لألبان كوسوفو كسبيل في توفير الحل للمشكلة القائمة، وهو ما ورد في المبادرة الفرنسية - الألمانية، نيابة عن دول الاتحاد الأوروبي، التي عُرضت أواخر العام الماضي، ورفضتها بلغراد إلى حد انسحاب وفدها من مؤتمر بون 9 و10/12/1997، لأن وثيقته النهائية نوهت بخطورة مشكلة كوسوفو، إذ وصفت بلغراد حتى مجرد الاشارة بأنها تتعارض مع حق الدول في معالجة شؤونها الداخلية، معبرة عن مخاوفها من أن يكون أي حكم ذاتي مرحلة أولى لانفلات الأمر من يدها تتبعها خطوات أخرى تنصب في تحقيق هدف الألبان بالانفصال، ولذا ترى أن المحادثات ينبغي أن تكون مع الألبان وحدهم وضمن إطار دستور جمهورية صربيا، في حين ان زعماء الألبان رحبوا بالتحركات الأوروبية كونها تحقق وضع قضيتهم في عهدة المجال الدولي، على رغم ان الحلول المطروحة لا ترضي طموحاتهم. وإضافة إلى مشروع الحكم الذاتي المتبنى دولياً، تتوافر معلومات عن مقترحات متداولة محلياً لتجنب مواجهة دامية في كوسوفو، منها رأي رئيس الحزب البرلماني في كوسوفو آدم ديماتشي وهو شخصية البانية مرموقة، القاضي بتكوين دولة كونفيديرالية باسم "بلقانية" تتشكل في المرحلة الأولى من ثلاث جمهوريات هي صربيا والجبل الأسود وكوسوفو وتكون مفتوحة لانضمام أي دولة مجاورة ترغب في ذلك. ومن المطروح أيضاً حل تقسيم كوسوفو الذي لم يبد أي من الطرفين رفضاً شاملاً له، لكن الخلاف يتركز حول نسبة التوزيع، إذ يريد الألبان أن يكون موازياً للشكل السكاني أي 90 في المئة من الأراضي لهم و10 في المئة للصرب، إلا أن الجانب الصربي يصر على أن يكون التقسيم إلى نصفين متساويين. ودأبت السلطات الصربية منذ تفاقمت الأزمة في كوسوفو على ترك الألبان وشأنهم، في التخلف عن أداء الخدمة العسكرية الالزامية، وتشكيل تنظيماتهم السياسية والمهنية والاجتماعية المختلفة، وحرية وسائلهم الاعلامية والتعبير عن مواقفهم، وتمشية أمور مدارسهم وكلياتهم بطريقتهم الخاصة شريطة ان لا يستخدموا المباني والمنشآت الحكومية، ولم تشدد حتى في جباية أجور الماء والكهرباء والسكن والضرائب وغضت الطرف عن مزاولة الأعمال التجارية من دون موافقات رسمية، لكنها تصدت بعنف لكل تحرك عسكري، وامتنعت عن منح جوازات السفر للمشاركين في العصيان المدني، ورفضت السماح للألبان باستخدام المباني الحكومية للدراسة ما داموا لا يقبلون التقيد بالمناهج المطبقة في انحاء صربيا الأخرى. وهو ما شكل ضغطاً على الألبان أدى إلى فرار الآلاف منهم إلى الخارج للعمل أو لاجئين وتعذر عودتهم بسبب عدم حيازتهم على جوازات السفر، وهو مخطط تعمده الصرب من أجل تغيير الصفة الديموغرافية لكوسوفو بتوطين لاجئيهم من كرواتيا محل الألبان الذين رحلوا. وازاء هذا الوضع، تصاعد التذمر بشكل لافت بين الألبان، خصوصاً الشباب منهم، منذ منتصف العام الماضي، وشرع الطلبة ينظمون التظاهرات المطالبة بانهاء السيطرة الصربية على مباني المدارس والتي تصدت الشرطة الصربية لها بقسوة، كما برز على الساحة تنظيم عسكري سري باسم "جيش تحرير كوسوفو" وتحمل مسؤولية الهجمات المتصاعدة التي تعرضت لها المؤسسات الصربية، معلناً أن "عملياته المسلحة لن تتوقف إلا بعد التخلص من الاستعمار الصربي وتحقيق وحدة كوسوفو مع دولة البانيا". وقدر بعض المصادر عدد مقاتليه بحوالى ألف مسلح. وقابلت السلطات الصربية ظهور جيش تحرير كوسوفو بمزيد من العنف واجراءات الاستعداد لأشد حالات المواجهة، فزادت من حملات اعتقال الألبان واحالتهم إلى المحاكم وايداعهم السجون، ولاحقت المشتبه بهم بالدبابات وطائرات الهليوكبتر، ونشرت أعداداً كبيرة اضافية من الجنود والشرطة في أنحاء كوسوفو، ووزعت السلاح على الصرب والألبان الرافضين للانفصال، وأوعزت إلى فويسلاف شيشيلي والكابتن دارغان وأركان وغيرهم من قادة الميليشيات التي حاربت في البوسنة وكرواتيا على دعوة مسلحيهم للتهيؤ من أجل التوجه إلى كوسوفو عند الطلب. ويجمع المراقبون على أن هذه الحرب، إن اندلعت، ستكون أكثر خطورة وايلاماً مما شهدته البوسنة، لأن الألبان ينتشرون في الدول المجاورة لكوسوفو، ما يجعل من المتعذر منع امتداد أوارها إلى خارج حدود هذا الأقليم.