جاء ابراهيم الحميد الى دمشق وهو يحمل كل مفردات اهل الجزيرة على أكتافه. وعندما تكلم أعطانا ألوان الارض وخطوط الحقول المزروعة منذ آلاف السنين، وعندما أراد ان يحكي لنا عن الانسان حكى عن جده جلجامش وقرى أوروك المزروعة على ضفتي النهرين، وقصّ علينا حكايا جدته عشتار، وأغنيات الفلاحين يوم الحصاد… لتكون لوحته أغنية فولكلورية تغوض في عمق الاسئلة وهي ترافق دبكات الفلاحين على بيادر الشمس الممتدة سطحاً وعمقاً. يلعب اللون في لوحتك دوراً درامياً يبدو كمعادل لقيم بصرية تراثية، فهل يخضع اللون عندك لدراسة ما؟ - في هذا المعرض البطل الاساسي هو اللون، اللغة الاكثر كثافة في التعبير عن خلجات النفس. استخدمت الاصفر البرتقالي وهو من الألوان الصعبة والمسيطرة يمتاز بقوة انتشاره وتأثيره السريع في النفس البشرية، انه اللون الذي يصدم المشاهد ويثيره بشكل محنق وقد يدفع العين والنفس الى حدود لا تحتمل، علاوة على انه لون انفعالي منشّط وهو يساعدني في ترجمة ما يجول بخاطري. ويعود سبب استخدامي لهذا اللون الى أمرين: الاول خاص ويرجع لظروف حميمة اردت من خلالها ان أُرمّزه بشخصية عزيزة عليّ هي والدتي التي فقدتها ذات يوم كان لونه الاصيل ولون التنور والتربة، ولم استطع رؤية وجه أمي إلا بهذا اللون الذي لا يموت. والسبب الثاني هو بحثي في امكانات اللون الواحد ومدى قدرتي على محاكاته تشكيلياً ضمن مساحات خرساء. طبعاً يقابل هذا اللون الازرق الفيروزي المضاد له او الملطّف لحالاته الانفعالية. انه على نقيض الاول يبعث في النفس الهدوء والسكينة. اذاً ها آنذا أصالح اللون الرابع حتى الآن… فقد صارعت اللون الاحمر وانتصرت عليه ثم اللون الهادئ الابيض والاسود ثم الازرق ثم هذا اللون الصعب لون الشمس. ولا تستغرب عندما اقول أصالح وأصارع لوناً لأنه عهدٌُ اتخذته منذ دراستي حتى الآن. الفرات بكل ما يعنيه، هل تحوّل الى حاضن تعيش فيه؟ وكيف تضبط اثر البيئة في رسومك؟ - الفرات، هذا النهر الذي يتمدد بدمي اسطورة ازلية تلهث لأجلي منذ الأزل، شرب منه باخوس وجلجامش وعشتار، شربت منه أوروك وآشور. كان نهراً فتياً هداراً يتسع لآلام الشرق الدافئ، احتضن أسرار الانهزام والانتصار وأنين الاحتضار حتى أنهكه حزنه الأزلي لينكمش ويتقلص. انه النهر الذي صار يعاتبنا، انه الفرات الذي خذلناه. لذلك رحت أقرأ في الاساطير تارة وفي وجه امي التي غادرتني تارة اخرى قرأته بلون الشمس ولون التربة ولون الاصيل. قرأته في وجه جلجامش قوة وطيبة وحناناً. قرأته لأقرأ ذاتي المفقودة فيه. لأن دم الحضارات ماؤها، رسمته حينما ينهض ثور جلجامش غاضباً يحمل على ظهره مدينته التي اندحرت بدواخلنا. رسمته تعويذة للمواليد الجدد، ولعروس زينتها أمّها بتنهيدة. فالوجه الذي تراه هو اشور واورك وجلجامش وعشتار، هو بساتين النخيل وضفافها. رسمته عندما يغضب وعندما يستريح وعندما يفيض بشبابه ويرقص ليداعب بيوتاتنا الطينية. أين يمكننا البحث عن الفكرة في اعمالك، اللمعة البصرية المترجمة خطوطاً والواناً على مساحة اللوحة؟ - في عمق المأساة وفي أوج حالاتها ترى هنالك لحظات مرحة وفي قمتها ينتابك شعوراً بالطرفة، وهذا ليس هذياناً نظرياً وانما هو مهم وضروري في هكذا امور. انا اعتمد هذه الحالات، فحينما تكون درجة معاناتي مع انتاج لوحتي الى حدود التوتر والانزعاج من قسوة ايقاعات اللوحة تراني احاول المرح قليلاً لأداعب ما اسميه انا بالمخبرين اللطيفين الذين يداعبون المساحة الصلبة والصمّاء ليخبروني عن قراءة احاسيسي بشكل صريح ودقيق. انا لا اتعامل مع اللوحة كرسّام انما كباحث في خبايا النفس وتلافيفها التي لا تترجم كلاماً. وحينا ألجأ متعمداً لرسم هذه الشخوص العابثة في المساحة والمكان انما افعل لأمنح مدلولات خاصة وعميقة ومبسطة في تفكيك طلاسم العمق البشري عن طريق اللون اولاً ثم تخفيف ثقله بهذه الرسوم اللطيفة، هذا من الناحية السيكولوجية للعمل. اما تشكيلياً فهي تضيف ايقاعات موسيقية تسمى "برتيكات" اي نمنمات الايقاع، وهي تحرك المساحة الثقيلة مستخدمة اتجاهاتها لجذب القارئ او المشاهد الى اماكن أريد انا ان يتعمّق ويفكّر فيها. في ظل المفاهيم الفنية الحديثة، هل ترى ان هناك فجوة بيننا وبين الحداثة عبر ما يقدمه الغرب لنا من فن؟ - نحن أناس من سلالة عريقة وحضارية، ومنذ الأزل ومنذ صراع الانسان مع المجهول واجدادنا يبحثون في فهم الحياة واحتياجاتها. لم يتركوا جانباً الا ووضعوا له اسساً، فقارئ التاريخ بشكله الملموس يرى ذلك ويؤمن به، انما المشكلة هنا ان انساننا الحالي اصبح في حكمه على الاشياء يملك من الحماقة ما يجعله تابعاً لكل ما يقوله الغرب وكل ما يدّعيه من تشويش وإذلال لماضيه. لذا نحن نمر بحالات فصامية ما بين الحسّ واللمس والمقصود هنا ان احساسنا في مكان وفكرنا في مكان آخر. وعلى رغم تعدد فنانينا ومستواهم الجيد والمبدع، الا انهم يفتقدون الثقة بأن تاريخهم مليء بالابداع الفني والعلمي، وانهم قادمون من ذاك التاريخ. اذا أردت تقويم الحركة التشكيلية في العالم العربي عموماً فما عليك سوى ان تبحث في دوافعها الجمالية اولاً والفكرية ثانياً. ومثال على ذلك انك تقدم زهرة لاثنين: شخص يشمّها ويمتّع ناظريه بها، وشخص يأكلها ويرميها. كذلك في الفن فإن لم يدرك الفنان ذاته معنى الجمال الحقيقي ومفهومه وتأثيره في الانسان والحياة ومعنى الحسّ اللوني وتأثيره في التركيب الحياتي فسوف تكون لوحته المنتجة هزيلة ومريضة لانها ستكون مهزوزة من الناحية النفسية لمحاكاة الواقع والآخر. نحن لدينا فنانون كثر يحملون أعمالاً ضخمة الا انها - وبسبب احساسهم بالضآلة والانحسار - ضعيفة وذليلة المستوى. في لوحتك علاقة واضحة مع رموز الاسطورة السورية، ويبدو كأنك تريد وضع كل معارفك عنها في لوحة واحدة؟ - في معرضي السابق الذي كان عن اسطورة بلاد ما بين النهرين التي تمتد من جلجامش الى اوروك، درستها بكل مقوماتها الحركية لكني لم أطرحها كموضوع تسجيلي موثق انما كان طرحها خفيفاً ومبسطاً مستخدماً رموزها ومناخاتها لمواضيع معاصرة وهواجس يومية لانسان معاصر مثل عودة زنوبية واورنينا وإنانا وحارس المدينة. هذه العناوين اقترنت بشخوص تاريخية واسطورية لتسهّل للمشاهد قراءة العمل الفني او اللوحة والدخول بمناخات تاريخية زمنية. فعندما يتعب رأسي المثقل بهموم العصر وانحلالاته الفكرية والاجتماعية أعود الى المرجع الحقيقي والدافئ الى التاريخ أحاوره بصمت، وعن طريق قراءات بصرية وحسيّة في الاساطير والمكان أسائل جدران الماضي ودائماً تجيبني بإشارات، من دون اي تسويس، عن مكمن العلّة التي أعانيها. فالتراث مثل الأم التي لا تملّ من الاسئلة، والتاريخ والتراث هما فكرة الحاضر. استخدمت رموزه وهيكليته الفكرية، فتراني اضع رموزه التي تحتاج الى زخم في العناصر والخطوط التي ابدأها على سطح اللوحة، لتنتهي بشكل مغاير عن تلك التي بدأتها، اما الذي لا يتغير فهو المناخ الاسطوري الذي أضع نفسي فيه خلال فترة العمل. لذلك ترى هذا الذي تسمّيه ازدحاماً، لكني أراه حالات لها اسبابها ودوافعها وحاجاتها من عناصر ومن رموز ومن معالم زمنية ومكانية.