- 1 - هي القاهرة، والتمست المعاذير لها وهي تماطل في منحي الفيزا. ربما المماطلة هي قياس جديد لدرجة اتساع وجبروت الحب بيننا كعرب. كنت أدري بطريقة ما ان عراقيتي استمرار لمصريتي ولبنانيتي وسوريتي. وكان هذا التأويل الوحيد المستعدة لسماعه في تلك الصباحات الشتائية والفاكسات والتلفونات تروح وتجيء بيننا، المجلس الأعلى للثقافة وأنا. فمكتب القاهرة لا يؤمن بالفشل، اما النجاح او النجاح. فلا اسمي منقوش في ارشيف الارهاب الدولي ولا سني يجعلهم في حالة تطير حقيقية. وإذن هو ضمير المتكلم الذي أروي فيه الذاكرة المخاتلة حتى دون ان "استثني الكذب". فحتى اليوم الاخير كانت الفيزا تشبه آلام الطلق تناور وتسكت، ثم ينفجر الومض في الفاكس كصفارة انتهاء الغارة: لقد تمت رؤية الهدف وتحققت نتائج حسنة، وصول ثلاث برقيات دفعة واحدة والتوقيع، كذا وكيت. يتم نشر هذا البلاغ برمته. التأكيد الشخصي غير مهم الآن. لا وقت الا لنخب القهوة المضبوطة، وتهانينا للجميع. - 2 - ما شأني بعنوان المؤتمر: خصوصية الرواية العربية، وخصوصيتي كمواطنة وكاتبة عراقية تتشتت وتتجزأ. ولحظة اقلاعي كانت شبه مستحيلة وخزان وقودي يتلو صلواته السريعة فلا اتذكر الا مشهد التحليق والهبوط والهدف واحد: القاهرة، قاهرتي انا هي ملامح وقسمات ونبض اصدقائي حتى لو أثارت البشاشة والتواد الآن نوعاً من الاستغراب فلم تعد بيننا لغة التفاهم الأولى. اولئك من اطلقت عليهم اسم جيل الضراوة والحيوية الروحية لوعد الوصية، وصية امل دنقل في "لا تصالح" وفاروق عبدالقادر، الشيخ امام وأحمد فؤاد نجم، وصايا هدى جمال عبدالناصر ومحمد عفيفي مطر ورجاء النقاش وابراهيم أصلان، غالب هلسا وجميل عطية ابراهيم وعبدالحكيم قاسم، والقافلة طويلة ونفيسة من صفحات كتاب مصر التي كان بمقدورها تحويل "اشيائي المدمرة الى اشياء نافعة" فلا احتاج لكل هذا الخوف من ابتداء الحب وليس من ختامه، من وجود الحب وليس من تجسيده حتى لو تم في شكل خسائر طفيفة. فأي كلام عن مصر والقاهرة سيقابل بپ"تصفيقات حارة" وهذا ليس مرادي. فكلما دخلنا النفق كنا نردد "ألم نقل ذلك من قبل؟" أو "الم نقرأ ذلك يوماً؟". كنا كالصيادين حتى قبل ان تترنح الطرائد بين ايدينا او السنتنا وكان الهدف: نحن، نتابع التحليق وأحدنا يقول للآخر: عال... ان الجهود طيبة. - 3 - للأمانة، الروائيون اقل غطرسة وعجرفة من الشعراء والموسيقيين مثلاً. ففي أيام المؤتمر الاخيرة كان واحدنا يحاول او يريد الغزو وبطريقته: استسلام الآخر ومن دون شروط. ربما كان البعض يفتقد القدرة على استرضاء نفسه فكيف بالآخرين. فالروائي حتى لو ظل يكتب عن الذات الفريدة المفردة فهو يستدعي العالم، النباتات الضارة والنفاذ الى التربة بعد اضرام النار فيها. فيبالغ الروائي وبطريقة تهكمية ومفخمة، لأنه، ربما، يريد من ذلك الاختفاء والكتمان الشديد. أزعم ان شرف محنة الابداع يأخذ هذا المنحى الجليل والوعر جداً. فتبدو الجائزة، الجوائز، الجانب الادنى خيالاً ومغامرة وجنوناً في سجل المبدع. ربما هي سلوك حميد للجهة المانحة، لانضباط حشود الورثة قبل ان يتحول المبدع الى يتيم الأب او الأم. لكن تبقى اشكالية الابداع مثل صبي ميشيما في تحفته "اعترافات قناع" القناع استحمام في "صخب الأمواج" والاعتراف لؤلؤ المبدع الصحيح والنادر جداً. - 4 - كلمة السر في القاهرة، الكتب. فلا اكتفيت بما اشتريت وانما استوليت على اهداءات الاصدقاء عباس بيضون والفانين سلوى بكر ومنير الشعراني اللذين ضبطا لي طرق الوصل واللقيا بسخاء وحنان قلّ نظيره، فتناسيت شحنة الغضب في صوت الدكتورة الرقيقة الشمائل نوال السعداوي وهي توقفني امامها كطالبة مشاغبة وبطريقتها المثيرة تسألني: "كيف تشتهينني على صفحات جريدة "الحياة"؟ عال انت حاولت قتل الأم كغيرك، تعني هي، من اجل بقاء الأب حياً وكان عليك فعل العكس". ابتسمت بوهن ولم اجب. ما هم، انا قتلت جميع افراد اسرتي، وأولهم نفسي. وعلى تلك الشاكلة كنا نتبادل الطرف وأرقام الهواتف: اسماعيل فهد اسماعيل وليلى العثمان من دولة الكويت الشقيقة ونحن ننفذ اهم بنود قرارات مجلس الأمن. - 5 - ليس اخيراً، من الجائز ان المجلس الأعلى بجميع موظفيه المبدعين كانوا على دراية تامة بأحجام شققنا التي تشبه التوابيت في الغرب فجعلوننا ندشن سرادقات بالمعنى الحرفي للكلمة. مئة متر موزعة على ثلاث غرف وحمامين مسلحة بالتناغم وفوحان الكرم المصري الذي فاق كل حد، حتى اتسع الحلم والعضلات بكل هذا الحيز من الحنان ايذاناً بصحبة الحياة، تلك التي كانت تجري من حولنا فلا نكرع في الختام الا حليب المرضعة، مصر ونحن نقف امام "منبت الثديين" العربيين. وأخيراً. وحدها حنان الشيخ لم تمر او تقف امام كاميرات التلفزيون ومصوري الصحافة المصرية. كان غيابها اشد كثافة وإيثاراً لي. اعني، ان التواري وليس التعالي يقترب في بعض الاحيان من الاكتمال، اكتمال الحضور وأيضاً الحنان...