زرت القاهرة للمرة الأولى قبل 30 عاماً. زرتها ضمن رحلة علمية قابلت فيها بعض الكتاب ممن كنت أشتغل على نصوصهم «صنع الله إبراهيم وجمال الغيطاني ويوسف إدريس». ولأنني قدمت إليها من باريس، حيث كنت أقيم فقد حسبتها ستكون الزيارة الأولى والأخيرة. فالمدينة جذابة جداً لكنها منفرة بالدرجة نفسها وربما أكثر. الجاذبية تتصل بعراقتها الحضارية وبمجاورتها للنيل العظيم وبمكانتها في تاريخنا المعاصر، إذ مثلت مركزاً ثقافياً ظل يشع ويضيء ما حوله منذ قرن ونصف القرن، ومع كل هذا لا شك في أن هذه الحاضرة العريقة تظل مزدحمة صاخبة غير نظيفة، وتبدو أجمل شوارعها وساحاتها ومبانيها وحاراتها عرضة للإهمال، بله الانتهاك! وزادت تمثيلاتها الأدبية والسينمائية والمسرحية من حدة تلك المشاعر المتناقضة التي اختبرتها كل لحظة في كل مكان. فهناك مئات الكتاب تغنوا بجمالياتها التي تتجلى فتنتها للعيان حيناً وتتخفى في ما وراء الظاهر المباشر حيناً آخر، لكن مبدعين معتبرين ومن جيل السبعينات خاصة، قدموا عنها صوراً كئيبة مرعبة، حتى لتخالها فضاء عدائياً لا يتحمل سكانه مشقات الحياة فيه إلا كقدر لا مهرب منه إلا إليه «وليسوا كلهم من ذوي الأصول الريفية الذين عادة ما يشعرون بالغربة بمجرد البعد عن عالمهم الصغير الأليف». حتى النيل ذلك الإله النبيل الذي طالما حلمت برؤيته ومصاحبته في جولات صباحية أو مسائية طويلة هادئة خانني، إذ لم أجد فرصة للمشي قريباً منه براحة بال ولو لبضع دقائق، وأين هو من نهر السين الذي يمكنك التمشي على ضفتيه اليوم كله أو العمر بأكمله؟ فعلاً كنت أتساءل عم تبقى من مدينة الأفلام الرومانسية العذبة والسهرات الغنائية الراقية والأجواء الاحتفالية الباذخة والجدل الفكري الغني، وتزيد حدة الخيبة حين أتذكر أنها أصبحت واحدة من المدن العربية التي تنتهك فيها حريات البشر في شكل يومي متعسف، وهي قليلة ومنقوصة أصلاً. سكنت عند صديقين سعوديين كانا يتابعان دراستهما العليا هناك، وكان لكرمهما الغامر أكبر الأثر في التخفيف من وقع صدمة حضارية معكوسة بمعنى ما. حرصت على زيارة أكبر عدد ممكن من المساجد الشهيرة والمواقع السياحية والمتاحف، وكأنني أودع من دون ندم قاهرة مقهورة كما قرأتها في الزيني بركات «أو مدينة بلا قلب بحسب مجاز شعري اختاره أحمد حجازي، زميلنا المنفي يومها في باريس، عنواناً لديوان شعري شهير. فماذا حدث تالياً؟ مفارقة طريفة ولا شك. فبعد عودتي إلى الرياض بداية التسعينات زرت القاهرة مرات لم أعد قادراً على حصرها، زرتها لوحدي في مناسبات ثقافية متكررة، وزرتها غير مرة مع أصدقاء للسياحة التي قد لا تعني أكثر من الهروب الموقت بأية ذريعة وإلى أي خارج، وزرتها مع الأسرة مرتين، وفي الثالثة مضينا منها إلى الأقصر وأسوان وما بينهما من مواقع «كنا في وادي الملوك قبيل المذبحة الجهادية الشهيرة بأسبوع». وخلال العام الحالي زرتها في مناسبتين، إذ شاركت الربيع الماضي في فعالية علمية في الجامعة الأميركية، دعتني إليها الصديقة الوفيّة فريال غزول، وتكررت المناسبة هذا الأسبوع بدعوة كريمة من الصديقة الجديدة سامية محرز. وعلى رغم كل ما يقال ويكتب عن التوترات التي أصبحت جزءاً من الخبر الإعلامي اليومي للبعيدين وجزءاً من مشاهد الحياة اليومية بالنسبة للمقيمين، ليس لدي أي مانع من زيارة القاهرة في أي وقت، عدا إجازة الصيف الطويلة. إذ تأخذني جاذبية الأماكن القصية بعيداً عن أية مدينة عربية. قصصت طرفاً من هذه الحكاية للزميلات والزملاء في مطعم الباشا النيلي الهادئ مساء الأربعاء 20-11 فسمعت المقولة الأسطورية ذاتها: «من يشرب من النيل لا بد أن يعود إليه». لكن الأسطورة تأويل لا تفسير. ترجمة رمزية حرة لحقيقة مجهولة أو لتجربة منسية. ولأنه يطيب للبشر التستر وراء المجازات الصغرى والكبرى، فنادراً ما يتجرأون على البحث في ما وراءها، لكن ماذا لو وجدت نفسك تقرأ في كتاب يكشف لك عن كل شيء من دون بحث أو توقع؟ هذا ما حصل لي تماماً، وإليكم الحكاية باختصار. فبعد محاضرة عن حدود الترجمة وإشكالاتها في السياق العربي الإسلامي قدمت لي الأستاذة سامية كتابها الأخير «أطلس القاهرة الأدبي - مائة عام في شوارع القاهرة» (دار الشروق عام 2012). وما إن بدأت القراءة صباح اليوم التالي حتى أيقنت أنني أمام عقد فريد من نوعه، ممتع كل المتعة، مفيد كل الفائدة ولا خلاص من فتنته. فالمؤلفة انتخبت مقاطع قصيرة من نصوص سردية مختلفة لكتاب من فترات واتجاهات وحساسيات متنوعة لتآلف بينها، كي ما تحكي القاهرة وتحاور أصواتها وتترجم أشواقها في كل أحوالها ومقاماتها. في البداية، تجد نفسك في حضرة محمد المويلحي الذي شخص بلغة المقامات تحولات القرن ال19، وقد أفضت إلى مدينة جديدة تريد أن تكون قطعة من أوروبا لا غير. ونجيب محفوظ الذي شخص بلغة حديثة دقيقة شفافة علاقات الحارة، فيما هي تضطرب بألوان الانشغالات الواقعية الصغيرة والميتافيزيقية الكبيرة، وصولاً إلى خيري شلبي الذي يستحضر أرواح الآباء المؤسسين ليخاطبهم مرة بلغتهم العتيقة ومرات بلسان شعبي ماكر مرح مبين. وبداية كهذه لا بد أن تفتح الباب واسعاً أمام كل الوعود الجميلة، لأن عشرات الكتاب والكاتبات سيتعاقبون أمامك أو يتحلقون حولك، ولك أن تنتخب من تشاء دليلاً إلى قاهرته المفضلة أو إلى قاهرتك التي تحب. ولأنني أميل إلى بعضهم أكثر من غيره، قفزت غير مرة لأقرأ وجوه المدينة كما تتجلى في مرايا يحيى حقي ويوسف إدريس ثم صنع الله إبراهيم وجمال الغيطاني وسعيد الكفراوي وبهاء طاهر وإبراهيم أصلان، وأخيراً مي التلمساني وميرال الطحاوي وعلاء الأسواني. والأمر الأهم أن طيف المؤلفة لا يغادرك حتى وأنت مع هذه الأسماء الإبداعية المميزة، لأنك لا تنهي مقطعاً حتى تشعر أنها كانت تراقبك من وراء ستار لترصد مشاعرك أو تحاورك حول وجاهة اختيارها، أو لتشاركك لحظة المتعة ذاتها لا غير. ذهب باختين إلى أن الروائي الجيد هو من يحسن الإنصات لمختلف الأصوات والخطابات الاجتماعية، ثم يحسن التأليف في ما بينها في نص واحد متعدد، مثله كمثل الأعمال السنفونية الكبيرة، وهنا يكمن المعنى الأبسط والأهم للحوارية. ولن أبالغ لو قلت إن المؤلفة راهنت على موقع مشابه وكسبت الرهان. فالوعي الأكاديمي حاضر بقوة في اختيار النصوص وتوزيعها، والرؤية النقدية المائزة لكل ذات مثقفة حديثة وحداثية قاسم مشترك بينها وبين غالبية الكتاب، لكن أياً من المنظورين لا يطغى أبداً على حساسية الفنانة المبدعة التي تتخذ من عشقها للحكايات ورواتها وللمدينة وسكانها منطلقاً ومصاحباً ودليلاً. نقرأ على الغلاف الأخير «هذا كتاب جديد من نوعه على الثقافة العربية، فمن خلال اختيارها المتقن لحوالى 100 نص أدبي، تقدم سامية محرز نوعاً من الطوبوغرافيا الأدبية المتضافرة مع تاريخ القاهرة الثري، الاجتماعي والثقافي والسياسي، وتسمح لنا تلك النصوص المتجاورة أن نرى زوايا أخرى للقاهرة الساحرة التي لا تكف عن إدهاشنا بتحولاتها، تلك المدينة التي نحبها ونكرهها آلاف المرات في اليوم الواحد، ولكن لا نطيق البعد عنها طويلاً. وأختم بهذه الفقرة لأن شقها الأول يُعبّر عن رأيي المعرفي بدقة. أما شقها الثاني، فالمؤكد أنه يترجم مشاعري بكل أمانة. * ناقد وروائي سعودي.