الكتاب: تاريخ ابن قاضي شهبة. الجزء الرابع من المخطوطة المؤلف: تقي الدين أبو بكر بن أحمد بن قاضي شهبة الأسدي الدمشقي تحقيق: عدنان درويش الناشر: المعهد العلمي الفرنسي للدراسات العربية - دمشق 1998 يأتي الجزء الرابع من "تاريخ ابن قاضي شهبة" ليتمم مشروعا بدأه المحقق منذ اكثر من ربع قرن، فالمخطوطة الأساسية هي مختصر لتاريخ كبير ذيّل به المؤلف تواريخ من تقدمه من مؤرخي الشام وأخرجه في مجلدين. وما بقي اليوم في متاحف العالم أربع نسخ خطية تعامل معها المحقق فوجد ان بعضها بخط المؤلف وبعضها الآخر منسوخ. فنسخة مكتبة أسعد افندي في استنبول موجودة في مجلد واحد تضم النصف الثاني من التاريخ، وتشمل المرحلة الممتدة من 781ه الى 808ه اي الفترة التي وقف عندها المؤلف وهي بخطه. واعتمد المحقق هذه النسخة في تحقيق النصف الثاني من الكتاب بينما اعتمد نسخة دار الكتب الوطنية في باريس لتحقيق النصف الأول وهي بخط تلميذه وعليها هوامش المؤلف مضيفاً او مصححاً. وكانت خطة التحقيق تقسيم كل مجلد الى جزءين تسهيلاً لعملية النشر، فيبدأ الأول من العالم 741ه وينتهي العام 750ه، بينما يتضمن الثاني الاحداث الممتدة من 751 الى 780ه، ويغطي الثالث الفترة الواقعة من 781 وحتى نهاية القرن الثامن الهجري، والجزء الرابع يبدأ من العام 801 وينتهي سنة 808ه. وباشر المحقق عمله بالجزء الثالث اذ انها الفترة التي يؤرخ فيها لمرحلة عاصرها كما ان هذا القسم كتب بخطه. ونال عدنان درويش اجازة الدكتوراه على تحقيقه هذا الجزء ثم تابع في فترات متتابعة إكمال تحقيق المخطوطة. ومما لا شك فيه ان الجهد الذي قدمه المحقق لا يقتصر فقط على اخراج متن الكتاب، بل هو انجز ايضاً شكلاً متقدماً في تفكيك المخطوطة عبر الطريقة التي اتبعها في الفهارس. ففي نهاية كل جزء مختصر تحليلي لكل عام مبوب حسب الاحداث سواء في السياسة او الادارة او القضاء او العمران وغيرها، وبذلك فإن تتبع الحدث او البحث عن شأن ما داخل هذه المخطوطة الضخمة سيكون سهلاً للباحث والقارئ العادي. الجزء الرابع من تاريخ ابن قاضي شهبة يتناول فترة حساسة من تاريخ دمشق وهي المرحلة التي شهدت دخول تيمورلنك اليها. ويبدأ الكتاب بأحداث سنة 801ه وهو العام الذي احتل فيه تيمورلنك الهند، وكانت السلطنة المملوكية تشهد آنذاك نهاية احد حكامها السلطان برقوق الذي قاد قبل ذلك معارك قاسية لتثبيت حكمه. وجاءت وفاته وتولية ابنه فرج بن برقوق لتحمل مزيداً من القلاقل بدأت عملياً بموقف نائب دمشق المراوغ من تعيين السلطان الجديد، اذ انه اجار بعض الامراء المنتفضين على السلطان ثم حالف نائبي حمص وحماة لإثارة الفتنة ضد السلطنة. واشتد النزاع في العام 802ه عندما اصبح معظم النواب يناصبون العداء للسلطان، وجهزوا جيشاً وتوجهوا به الى مصر لمحاربته وخلعه لكنهم هزموا في معركة وقعت بين الرملة وغزة. وأعقب ذلك دخول العسكر المصري الى دمشق والقيام باعتقالات وإعدامات كثيرة في وقت كان جيش تيمورلنك يواصل انتصاراته في الهند بعد احتلاله مدينة دلهي. ومع حلول العام 803ه باشر الجيش التتري زحفه نحو بلاد الشام ووصلت اخباره الى القاهرة، وأرسل تيمورلنك كتاباً الى السلطان يسأله فيه تسليم بعض رسله المأسورين في مصر ويطالبه ايضاً بالخضوع والاستسلام. ثم وصل بعد ذلك وفد من تيمورلنك الى القاهرة للمطالبة بأمير تتري كان رهينة في مصر، وأعطى الوفد وعوداً للسلطان المملوكي بالانسحاب من بلاد الشام اذا ما تم الافراج عن الامير. وبالفعل اطلق الامير وأرسل الى دمشق مع وفد مملوكي لمفاوضة تيمورلنك. لكن الجيش التتري باشر باجتياح الشام وجرت المعركة الأولى قرب حلب فهزم الجيش المملوكي، وسقطت المدينة بينما اعتصم الامراء في القلعة التي سقطت في وقت لاحق. وينقل ابن قاضي شهبة في احداث هذه السنة حجم الهول والذعر والقتل الذي مورس في بلاد الشام. وظهرت السلطة المملوكية مضطربة وعاجزة عن ضبط الأمور قبل وصول الجيش التتري الى دمشق. فقد هرب جهازها الاداري وباتت البلاد مكشوفة للجيش الغازي الذي دخل وفق غاية واحدة هي التخريب. ويعتبر ما جرى في مدينة دمشق صورة لعجز السلطة المملوكية وعدم قدرتها على مجابهة الامور، فبعد فرض ضرائب عالية لتجهيز الجيش وإصدار القضاة فتوى بقتال تيمورلنك وصل نواب صفد والاغوار بعساكرهم الى دمشق، لكن الهزائم المتتالية والاخبار المرعبة التي وصلت الى المدينة عن اعمال الجيش التتري دفعت الناس للهرب، وفي الوقت نفسه ظهرت الاستعدادات للمواجهة عبر تحصين بوابات المدينة. وكانت دمشق مكتظة باللاجئين من اهالي وادي بردى حين وصل انذار تيمورلنك بتسليم المدينة، فحاول بعض امراء المماليك الهرب لكن الناس ردوهم قسراً بينما استطاع الاعيان الهروب. وبعد ان طوق الجيش التتري دمشق وصل الجيش المملوكي من القاهرة وعلى رأسه السلطان، وبدا واضحاً ان معركة كبيرة ستقرر مصير دمشق والموجودين فيها. وبدأت مناوشات بين الجانبين، ثم انسحب الجيش المملوكي فجأة عندما اختفى بعض الامراء وشاع انهم يخططون لاغتصاب السلطنة في القاهرة، وترك الاهالي في مواجهة الجيش التتري فأعلن نائب دمشق تسليم المدينة سلماً بينما رفض نائب القلعة ذلك، واستطاعت القلعة الصمود لمدة شهر ثم سقطت بيد تيمورلنك الذي خربها بالكامل، ثم جاء دور سكان المدينة فتفنن في تعذيبهم وأحرق المدينة بالكامل قبل انسحابه بعد ان سبى النساء، واصطحب العلماء والحرفيين واتجه نحو ماردين ثم بغداد فاحتلها ودمر أسوارها. تشكل اخبار تيمورلنك محوراً مهماً للمجلد الرابع من تاريخ ابن قاضي شهبة، فالاحداث الواقعة خلال السنوات التي رصدها الكاتب لها علاقة مباشرة باجتياح الجيش التتري لبلاد الشام. ومع ان الكتاب ينقل في الحوليات بعض الاخبار عن صراعات المماليك في القاهرة، لكنه يتتبع ايضاً مسيرة الجيش التتري بعد خروجه من بلاد الشام، ففي سنة 804ه كان تيمورلنك يقاتل ابن عثمان وفي الوقت نفسه يوفد رسولاً الى القاهرة. وفي العام 805ه انتصر تيمورلنك على بايزيد بن عثمان وأخذه اسيراً كما هدد السلطان في مصر كي يطلق رسوله المأسور. وخلال عامي 806 و807 لم تنقطع المراسلات بين السلطان وتيمورلنك وتم توقيع معاهدة صلح بينهما. وفي نهاية تلك الفترة توفي تيمورلنك فدبّ الخلاف في الجيش التتري الذي انسحب من العراق، ووقع تمرد نائب دمشق بعد ان رفض رد بعض الامراء الهاربين اليه من القاهرة، كما حصل تمرد آخر في حلب وجرى قتال بين نائب دمشق ونائب صفد ونشبت معركة ايضاً بين العساكر الشامية والمصرية. وبأحداث سنة 808ه ينتهي تاريخ ابن قاضي شهبة لينقل وقائع انتهاء تمرد نائب دمشق وشفاء السلطان فرج بن برقوق من مرضه.