أبو العباس احمد بن محمد بن كثير الفرغاني - نسبة الى مدينة فرغانة في ما وراء النهر - من العلماء المهمين. برز في العلوم الفلكية والرياضية وقدم خدمة جليلة في تطور العلوم البحتة، وكان رائداً في نقل الانجازات الفلكية للتراث الاسلامي القديم الى أوروبا في القرون الوسطى، وقد اشتهر في الشرق والغرب، وعرف عند الافرنج باسم Alfraganus، وكانت شهرته على الخصوص في مجال العلوم الفلكية. ونحن لا نعرف إلا النزر اليسير عن حياة الفرغاني مع ان مؤلفاته مذكورة في أغلبية المصادر العربية الخاصة بالتراث الاسلامي، وكل ما نعرفه ان الفرغاني كان أحد العلماء في أيام الخليفة المأمون وشارك في الاعمال المتعلقة بقياس حصة الدرجة الواحدة من خط نصف النهار ما بين سنتي 216 ه/ 832م و217ه/833م في الشام والعراق. وقام بإصلاح المقياس الجديد لنهر النيل Nilometer في سنة 247ه/ 861م في الفسطاط بمصر أيام الخليفة المتوكل. ترك الفرغاني ستة مؤلفات تتوزع مخطوطاتها على مكتبات متعددة في مختلف أنحاء العالم. وهذه المؤلفات هي: "كتاب جوامع علم النجوم وأصول الحركات السماوية"، "الكتاب الكامل في صناعة الاسطرلاب الشمالي والجنوبي"، "جداول الفرغاني"، "كتاب عمل الاسطرلاب"، "الرسالة في معرفة الأوقات التي يكون القمر فيها تحت الأرض أو فوقها" و"كتاب عمل الرخامات". أما كتابه الأول "جوامع علم النجوم وأصول الحركات السماوية" فقد جلب له شهرة كبيرة في أوروبا في القرون الوسطى واستخدم كمرجع رئيسي في دروس علم الفلك في العديد من الجامعات الأوروبية. ويعتبر "كتاب جوامع علم النجوم وأصول الحركات السماوية" مرجعاً مفصلاً عن علم النجوم في عرض النظام الفلكي الذي استخدمه العالم اليوناني الشهير بطليموس Ptolemy في كتابه المجسطي. وكتاب الفرغاني هذا يتكون من 30 باباً ويناقش مؤلفه فيه مختلف موضوعات علم الفلك مثل كروية السماء والأرض وحركاتهما، وصفات الربع المسكون من الأرض، واسماء البلدان المعروفة في الأرض، ومطالع البروج، وصفة أفلاك الكواكب وتركيبها ومراتب ابعادها من الأرض، وحركات الشمس والقمر والكواكب، وابعاد الكواكب من الأرض، وتشريق الكواكب وتغريبها، وطلوع الأهلة، وكسوفات القمر والشمس وغير ذلك من الموضوعات. وقد كتب الفرغاني كتابه بطريقة علمية بناها على تجاربه الشخصية وملاحظات زملائه من العلماء الذين اشتركوا معه في الاعمال الفلكية في أيام الخليفة المأمون، حتى قال عنه المؤرخ البريطاني الشهير G. Sarton: "ان الفرغاني كان أحد أعظم العلماء في علم الفلك عند المأمون والخلفاء الآخرين بعده". ومن أهم انجازات الفرغاني المسجلة في هذا الكتاب تحديد حصة الدرجة الواحدة من خط نصف النهار بپ56 ميلاً وثلثي ميل، وهو تحديد ظل مستخدماً في أوروبا حتى أيام كولومبوس Columbus. وكلمات كولومبوس في هذا الشأن محفوظة في أحد متاحف اسبانيا اليوم، وفيها يعترف بأنه اختبر قياسات الفرغاني المتعلقة بپ56 ميلاً وثلثي ميل بواسطة الاجهزة المعاصرة ووجدها سليمة. وحصل الفرغاني على تحديد استدارة الأرض بأنها تبلغ 20400 ميل بعد ضرب 56 ميلاً وثلثي ميل بپ360 درجة، ومن هذا استخرج قطر الأرض 6500 ميل، ومن ثم نصف قطرها 3250 ميلاً. وشرح المؤلف أحوال 1022 كوكباً مقسمة الى ستة أقسام، وحدد المسافات ما بين الأرض والكواكب المختلفة. وتعتبر المعلومات الجغرافية عن الأقاليم السبعة المسكونة التي يحتوي عليها هذا الكتاب بالغة الأهمية حتى في أيامنا هذه. وتمت ترجمة الكتاب الى اللغة اللاتينية مرتين في القرن الثاني عشر: الترجمة الأولى في سنة 1134م والثانية قبل سنة 1175م. وظهرت بعد ذلك ترجمة له باللغة العبرية. وطبع كتاب "جوامع علم النجوم" مرات في مدن أوروبية واميركية عدة مثل فيرارا في سنة 1493م، ونورمبرغ في سنة 1537م، وباريس في سنة 1545م، وفرانكفورت في سنة 1590م، وامستردام في سنة 1669م وكاليفورنيا في سنة 1943م. ومن اشهر طبعات هذا الكتاب الطبعة التي قام به المستشرق يعقوب غوليوس في مدينة امستردام في سنة 1669م اذ ترجم الكتاب الى اللغة اللاتينية معتمداً في نشرته للنص العربي منه على المخطوط العربي المحفوظ في مدينة ليدن. وقام فؤاد سزكين بإعادة نشر الطبعة الأخيرة في سنة 1986م في فرانكفورت. وهذه النشرات الأوروبية المذكورة اعلاه والمخطوطات العربية المتعددة تدل على ان كتاب "جوامع علم النجوم وأصول الحركات السماوية" كان منتشراً بصورة واسعة في الشرق والغرب. إن أولى الترجمات اللاتينية لهذا الكتاب تمت على يدي المترجم الاسباني جون حسبالنسيس Johan Hispalensis في سنة 1134م. وقد تيسر لهذه الترجمة ان تكون من أول الكتب العربية المترجمة والمطبوعة في أوروبا بعد اكتشاف طباعة الكتب. وهناك نسخة من هذه الترجمة في مكتبة البودليان في جامعة اوكسفورد تحت رقم Ms. Asmole 124. اضافة الى ذلك هناك في المكتبة نفسها مخطوطة عربية من الكتاب نفسه يرجع تاريخ نسخها الى سنة 687ه/1288م. وفي طبعة فيرارا 1493 صورة نادرة للفرغاني والى جانبها اسمه باللاتينية Alfraganus. ويظهر في الصورة نفسها رجل آخر اسمه هريميتا Heremita وهو راهب من أسرة مشهورة في ايطاليا في القرون الوسطى غطى من ماله تكاليف الطبعة الأولى لكتاب "جوامع علم النجوم" للفرغاني، وهو الكتاب الذي أصبح في ما بعد اساساً مهماً للعديد من الاكتشافات التي ظهرت في مؤلفات العلماء المتأخرين في علم الفلك. ويجذب الانتباه في الصورة ايضاً جهازان فلكيان قديمان: الأول ويظهر في أعلى الزاوية اليمنى هو ربع المقنطرات الذي استخدمه العلماء المسلمون لتحديد ارتفاع الكواكب والحسابات الفلكية الاخرى. والثاني يظهر في أعلى الزاوية اليسرى وهو مسطرة مثلثة للاغراض الفلكية والجغرافية. وهذا الكتاب والصورة معه يشرحان جانباً من الجهود العلمية البناءة التي بذلها أحد علماء المسلمين في خدمة علم النجوم، وهما يحتفظان بالكثير من المعلومات القيمة عن تطور علم الفلك في بداية القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي.