وزير الخارجية يلتقي وزير خارجية فرنسا    فريق قوة عطاء التطوعي ينظم مبادرة "خليك صحي" للتوعية بمرض السكري بالشراكة مع فريق الوعي الصحي    الذهب يواجه أسوأ أسبوع في 3 سنوات وسط رهانات على تباطؤ تخفيف "الفائدة"    فلكية جدة : "القمر العملاق" يزين سماء المملكة اليوم    النفط يتجه لتكبد خسارة أسبوعية مع استمرار ضعف الطلب الصيني    جامعة أمّ القرى تحصل على جائزة تجربة العميل التعليمية السعودية    ميقاتي: أولوية حكومة لبنان هي تنفيذ قرار مجلس الأمن 1701    خطيب المسجد الحرام: من ملك لسانه فقد ملك أمرَه وأحكمَه وضبَطَه    خطيب المسجد النبوي : سنة الله في الخلق أنه لا يغير حال قوم إلا بسبب من أنفسهم    الاعلان عن شكل كأس العالم للأندية الجديد    "الخبر" تستضيف خبراء لحماية الأطفال من العنف.. الأحد    بيهيتش: تجربة النصر كانت رائعة    موقف ريال مدريد من ضم ثنائي منتخب ألمانيا    القيادة تهنئ ملك مملكة بلجيكا بذكرى يوم الملك لبلاده    الفرصة لاتزال مهيأة لهطول الأمطار على جازان وعسير والباحة ومكة    ليس الدماغ فقط.. حتى البنكرياس يتذكر !    البثور.. قد تكون قاتلة    قتل أسرة وحرق منزلها    أمريكا.. اكتشاف حالات جديدة مصابة بعدوى الإشريكية القولونية    إصابات بالاختناق خلال اقتحام قوات الاحتلال الإسرائيلي بلدة الخضر جنوب بيت لحم    هيئتا "السوق المالية" و"العقار " توقعان مذكرة تفاهم لتنظيم المساهمات العقارية    وزير الحرس الوطني يستقبل وزير الدفاع البريطاني    أمين الأمم المتحدة يؤكد في (كوب 29) أهمية الوصول إلى صافي انبعاثات صفرية    الرياض تستضيف النسخة الرابعة لمنتدى مبادرة السعودية الخضراء    جرائم بلا دماء !    الحكم سلب فرحتنا    «قمة الرياض».. إرادة عربية إسلامية لتغيير المشهد الدولي    الخرائط الذهنية    عبدالله بن بندر يبحث الاهتمامات المشتركة مع وزير الدفاع البريطاني    احتفال أسرتي الصباح والحجاب بزواج خالد    عاد هيرفي رينارد    لماذا فاز ترمب؟    في أي مرتبة أنتم؟    الشؤون الإسلامية بجازان تواصل تنظيم دروسها العلمية بثلاث مُحافظات بالمنطقة    باندورا وعلبة الأمل    علاقات حسن الجوار    الشؤون الإسلامية في منطقة جازان تقيم مبادرة توعوية تثقيفية لبيان خطر الفساد وأهمية حماية النزاهة    «السوق المالية»: تمكين مؤسسات السوق من فتح «الحسابات المجمعة» لعملائها    مدارسنا بين سندان التمكين ومطرقة التميز    6 ساعات من المنافسات على حلبة كورنيش جدة    فريق الرؤية الواعية يحتفي باليوم العالمي للسكري بمبادرة توعوية لتعزيز الوعي الصحي    خالد بن سلمان يستقبل وزير الدفاع البريطاني    القبض على (7) مخالفين في جازان لتهريبهم (126) كيلوجرامًا من نبات القات المخدر    أمير تبوك يطمئن على صحة مدني العلي    مركز صحي الحرجة يُنظّم فعالية "اليوم العالمي للسكري"    أمير المدينة يلتقي الأهالي ويتفقد حرس الحدود ويدشن مشروعات طبية بينبع    انطلاق المؤتمر الوزاري العالمي الرابع حول مقاومة مضادات الميكروبات "الوباء الصامت".. في جدة    البصيلي يلتقي منسوبي مراكز وادارات الدفاع المدني بمنطقة عسير"    ذلك «الغروي» بملامحه العتيقة رأى الناس بعين قلبه    استعراض جهود المملكة لاستقرار وإعمار اليمن    استعادة التنوع الأحيائي    وصول الطائرة الإغاثية السعودية ال 23 إلى لبنان    بحضور الأمير سعود بن جلوي وأمراء.. النفيعي والماجد يحتفلان بزواج سلطان    أفراح النوب والجش    مقياس سميث للحسد    فيلم «ما وراء الإعجاب».. بين حوار الثقافة الشرقية والغربية    كم أنتِ عظيمة يا السعوديّة!    إضطهاد المرأة في اليمن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الثقافة العربية من خلال مؤتمر غرناطة للابداع والتغيير الاجتماعي : لن يحدث شيء مفيد قبل ان نعرف من نحن ومن ... آخرنا !؟
نشر في الحياة يوم 24 - 05 - 1998

قصر الحمراء كان هناك، على بعد خطوات قليلة فقط من قصر كارلوس الخامس الذي انعقد في إحدى غرفه مؤتمر الإبداع العربي. لكننا، نحن الذين في المؤتمر، لم ندرك انه على ذلك القرب منا وأنّ أحد جدرانه ملاصق لجدران القصر الذي نحن فيه.
ولعله، في حضوره الخيالي و"المعنوي" في ذهن كل من الحاضرين، كان أقرب وأسهل بلوغاً من الاهتداء الى بوابته والدخول إليه.
يستطيع كل منهم ان يستحضره، استحضاراً، لحظة يشاء، رمزاً لعمارة العرب وحضارتهم في الأندلس. ولم يكن ذلك يحتاج الى أكثر من استدعاء ذلك المعنى الفخم، ممزوجاً أو مندمجاً بصورة للقصر كان قد شاهدها متذكّره في احد الكتب او احدى المجلات، حتى يتم الامتلاء ذو الطابع المأسوي. او البكائي احياناً، طالما ان "ضياع الاندلس" ما زال، في ذهن الآسفين، العلامة الاولى في مسار تقهقر الحضارة العربية.
زمن الانفصال الاندلسي:
قصر الحمراء كان هناك، على بعد خطوات قليلة من مكان المؤتمر. في البداية حسب المدعوون، وهم في طريقهم بالطائرات الى غرناطة، ان التقاءهم هناك، في ذلك "الصرح الرمزي" مقصود ومتعمّد. من قبيل ذلك مثلاً ان يقرِّب وجودُ "الحمراء" المؤتمرين من الزمن غير البعيد ذاك، وهو زمن الانفصال، او زمن حدِّ الانفصال بين وجود العرب وغيابهم. ان يردهم خمسمائة عام الى الوراء ليكونوا في تلك اللحظة ذاتها، واقعين تحت وطأة الاسئلة التي ربما اثير شيء منها في ذلك الوقت القديم.
تلك الاسئلة لتي احسب انها لم تتغير الآن تغيّراً جوهرياً، ولا هي تغيّرت في حقب القرون الخمسة الفائتة.
ما زالت الاسئلة هي نفسها، او انها، في الاقل، يمكنها ان تكون هي نفسها ما دام ان نقاشات المؤتمر دارت، على مدى ايامه الخمسة، حول "الهوية" و"الأنا والآخر"، و"التراث والمعاصرة" او "الاصالة والحداثة".
هذه الاسئلة لا تعيّن زمنا ولا يُعيَّن بها زمن. كان يستطيع آخر ملوك بني الاحمر، بعد خروجه من الاندلس، ان يقف الوقفة ذاتها، وإن بمأسوية حارة هذه المرة، ويسأل نفسه من انا، هكذا مخلفاً الاندلس وراءه وميمّماً شطر الممالك والدويلات العربية المتداعية.
المؤتمرون في غرناطة لم تعد تغريهم الدرامية الفائضة التي ظلّ العرب يرفعونها علماً على مجدهم الضائع الذي ابتدأ بها وانتهى بقيام اسرائيل، ماراً طبعاً بلواء الاسكندرون.
ثلاثي الخسارات هذا لم يتوقّف الا مؤخراً عن تغذية الوجدان الحضاري العربي.
حتى آخر السبعينات ظلت الاذاعات والمسرحيات والقصائد والاناشيد تغنّي هذا الثلاثي رابطة بين عناصره. في سورية كان دريد لحّام يعدِّد ذلك، بادئاً من الاندلس، على خشبة مسرحه الدمشقي، جامعاً التواريخ الثلاثة في نظمة واحدة. ومثل ذلك كانت تفعل الاذاعات اذ تذيع الاناشيد الحماسية، في اوقات ما كانت تحدث الهزائم وتتتالى.
بريق الماضي المفقود
فقدت الاندلس بريقها "القومي" والبكائي في نهاية السبعينات. اي ان ذلك البريق عاش نحواً من 480 عاماً ليموت هكذا فجأة في ايامنا. وطبعاً لم تنج غنائية الاسكندرون من ذلك، وها اننا لم نعد نسمع ذكراً لها، او للوائها، حتى بنسبة واحد على مئة قياساً الى ما كان عليه الحال في السبعينات. لم يبق الا اسرائيل اذاً، لكن هذه ايضاً باتت حرارتها، او غنائيتها، ابرد بكثير.
المكان الذي انعقد فيه المؤتمر "صرح رمزي" بحسب ما ذكر عبدالله حمودي في كلمة الافتتاح لكنه، الآن، بات فاقداً للكثير من القوة التي تجوهر الرمز وتكثّف طاقته في العادة. كان قصر الحمراء هنا على مقربة، خلفنا في الجوار الملاصق. لكننا، ونحن قريبون منه ذلك القرب، لم نشعر برمزيته تلك تهبّ علينا بل ان اكثرنا لم يتجشّموا عناء المسير اليه، لزيارته.
وحين تأمّن لنا ذلك، في وقت مخصوص هو مساء الخميس في 7 أيار مايو، لم نبذل شعوراً فعالاً في اثناء ما كنا نجول في الاروقة والردهات.
حتى اننا بدَوْنا، شأن السائحين الذين ازدحمت وفودهم حولنا، موقفين إعجابنا عند الزخرفة والنقوش التي تملأ جدران القصر جميعها.
لم توح بشيء كثير ابيات الشعر المنقوشة بالخط العربي ولم يوح نقش "لا غالب الا الله"، المالئ الجدران، ببيارق يزدحم تحتها فرسان محاربون. ثم اننا، على جانب من قصر كارلوس، الاسباني، الذي شيد لتسجيل الانتصار على العرب، رأينا نقشاً لفرسان اسبان تدوس خيولهم مقاتلاً عربياً مهزوماً، ولم يثر لدينا ذلك كثير حنق او غضب. حتى اننا جعلنا نتمازح لرؤيتنا، في احد النقوش، دليلاً على وقاحة الرسام الاسباني القديم بكشفه عورة احد المقاتلين العرب جاعلاً ذلك صيغة هجائية لم ترتفع في فنيّتها، في ذلك البناء التاريخي، عن سباب العوام.
قصر الحمراء، "الصرح"، بات الآن فاقداً للكثير من المعنى "الرمزي" الذي كان له. تأخرنا نحواً من عشرين سنة عن ذلك او ثلاثين. الآن لم يعد تكويننا العاطفي الوطني مثلما كان في ذلك الوقت غير البعيد.
في ما يتعلّق بغرناطة، او بالاندلس، لم نستطع بعد ان نؤلف تصوّراً مغايراً للذي كان لنا في الاناشيد والمسرحيات والاغنيات. بل الحقيقة اننا نسينا الاندلس منذ ان اسقطناها من قاموس شعاراتنا الوطني.
الاندلس، غرناطة، قصر الحمراء، تكاد تكون الآن لا شيء وربما كان عبدالله حمودي يضعنا ويضع نفسه في حقبة سابقة حين اضفى على المكان معناه الرمزي ذاك.
شعار انقضى عهده:
لم تعد غرناطة مركز ثقل في تاريخنا الوجداني. انقضى الشعور الذي كنا ننفعل به حيالها ولم نهتم، في المقابل، بأن نؤلف لنا نحوها شعوراً جديداً.
باتت بالنسبة لنا شعاراً انقضى عهده ونحن، فيما كنا نغادره، تركنا ما بقي من الاندلس قائماً حيث تركنا الشعار.
لقد اوقفناهما معاً، الاندلس وشعار الاندلس، متخلّصين منهما في وقت واحد. اما بيدرو مارتينس مونتافيس، المستشرق البارز الذي شارك في اعمال الندوة الاخيرة وعنوانها "الذات والآخر وعلاقة المجتمعات العربية بالثقافات الاخرى"، فقال انه، مع كثير من مثقفي قومه الاسبان، تمكنوا من التصالح مع تلك الحقبة من تاريخ بلادهم، حقبة سيادة العرب.
طبعاً لا يستطيع بيدرو مونتافيس ان يزيح من وعيه لتاريخه تلك الحقبة، على نحو ما يستطيع المثقفون العرب، فإسبانيا بلده وليست حلمه او "زمان وصله".
كان المستشرق الاسباني، بقوله ذاك، كأنه يدعو سامعيه من المثقفين العرب الى ان يتصالحوا، هم ايضاً، مع ذلك التاريخ.
لقد خطا بما قاله خطوة الى الامام وهو لا بدّ انتظر ان يفعل سامعوه الشيء نفسه. لكنهم لم يكترثوا لذلك كثيراً. او انهم ربما وجدوا في دعوته تلك دعوة الى فضِّ خلاف لم يعد محتدماً. ثم ان ذلك الموضوع بدا لهم هامشياً وجزئياً ولا يفيد كثيراً تناوله بمفرده.
كان انشغال المؤتمرين متمحوراً حول المسائل الكلية، الجوهرية، من نوع علاقة الذات بالآخر ومن هو الآخر بالنسبة الينا. ذلك تساؤل ينبغي حلّه، او، على الاقل، الاقتراب من بدايات اجوبة عنه، ليحين بعد ذلك دور الكلام التفصيلي حول علاقتنا بتاريخنا الاسباني.
بدا في القاعة كما لو ان بيدرو مونتافيس، الاسباني، حقق تصالحه مع تاريخه بينما لم يصل المثقفون العرب بعد الى ذلك. مَنْ نحن، جعل يسأل المنتدون او انهم، في الندوات التي جعل اكثرها يجنح نحو ذلك التساؤل، كانوا كأنهم يتحاورون من اجل الاتفاق على صياغة التعاريف للاطراف والعناصر المؤلفة له. من هو الآخر؟
محمد عابد الجابري قال ان الآخر بالنسة لنا ليس هو الغريب عنا غربة كاملة بل ينبغي ان يكون داخلاً فينا، او ان نكون نحن داخلين فيه، كأنما من اجل ان يصير آخرنا وليستحق ان يكون كذلك.
لم يثر كلام المستشرق الاسباني المودة التي كان ينتظرها. اما الفتاة السودانية المقيمة في اسبانيا والتي حاولت دحض كلامه بقولها ان الاسبانيين لم يتصالحوا ابداً مع حقبتهم العربية الاسلامية بدليل عدائهم المعلن للمقيمين بينهم من العرب فلم يفعل كلامها فعله اذ لم تستبد بالحاضرين ريح عصبية او ريح عداوة.
ففضلاً عن انه لم يعد شيء منتظراً من وجداننا الاندلسي، بتنا معتادين، خصوصاً في العقود القليلة الاخيرة، على ان "الآخرين" جميعاً يكنّون لنا العداوة المعلنة ذاتها.
تعريف الذات:
من هو الآخر، آخَرُنا؟
تعريف الآخر وتحديده يلزمه بالضرورة تعريف الذات. في ندوة عقدت في معهد الفنون المعاصرة بلندن عام 1992 بدا سؤال احد المنتدين العرب "من أنا؟" جديداً ان لم يكن مستغرباً. في ذلك الوقت كنا لم نزل في مجال الهوية الواضح الذي كان يعرف واحدنا فيه نفسه كما يعرف آخَرَهُ من ضمن الادراك الواحد ذاته. لكننا كنا في آخر ذلك المجال او في نهايته. اي في آخر حقبة من حقب الهويات المتواترة.
كان السؤال: "من أنا؟" جديداً آنذاك، بل استفزازياً حين يُلقى في وسط منتدين قدم اكثرهم لإثبات هويته واعلانها وتأكيدها.
الآن، في خلال هذه السنوات الأخيرة، بدا ان المترددين القلقين، المتسائلين عن هويتهم ماذا هي، ازدادوا عدداً، كما انهم ازدادوا جهراً بما كان قوله يُعدّ خروجاً على الإجماع. في مؤتمر غرناطة للإبداع لم تخرج الكلمات والنقاشات عن درجة الصفر في تعريف النفس وقد ظهر ذلك في أشكال مختلفة متعددة.
كلمة كمال أبو ديب دلّت على فقدان الموقع الذي يصدر منه الكلام فقداناً يكاد يكون كاملاً. لم يلحم أجزاء الصفحات الأربعين الطوال هيكل أو نواة هيكل فبدا المتكلم المحاضر كأنه قادم من مكان خيالي وذاهب بعد ذلك الى مكان خيالي آخر.
كل ما جرى رفعه من شعارات فكرية في السنوات الأخيرة، جرى رصفه في كلمة أبو ديب وإعطاؤه رقماً حتى بلغت أرقام ما ينبغي على العرب أن يأخذوا به ثمانين بنداً أو يزيد.
وكان في تعداد ذلك تباين واضح بنتيجة أخذ أبو ديب لبنوده من منظومات ثقافية متخالفة ومتعارضة. كأن "بيانه" الإصلاحي لتجديد أحوال العرب لم يصدر، مكانياً، من أي مكان من أمكنة العرب - المكان الضروري الوجود لأنه، على الأقل، يُرجع الكلام الى مرتكز ويجمع بين أجزائه مانعاً تخبّطه وتهويمه.
لم ينتظم كلام أبو ديب في خيط جامع موصول. ولم يكن ممكناً له ذلك ما دام ان الصفحات الأربعين لم تأتِ على ذكر واقعة واحدة، أو تجربة واحدة، أو تحقق اجتماعي أو سياسي أو ثقافي واحد. كانت كلمة لتدبير المستقبل من دون ان ترجع الى حاضر أو الى ماضٍ أو تذكّر بهما، هكذا كأن الذي لم يحصل بعد سيحصل كله دفعة واحدة في وقت ينبغي ان يكون قريباً وإن ليس من أحد قادر أن يعيّنه. لا حاضر ولا ماض، لا حادثة ولا واقعة يفيد ذكرها في البيان الحديث المبقي من البيان القديم تهويمات "الثورية" وألفاظها.
البدء من الصفر المختلف:
كمال أبو ديب، شأنه شأن كثيرين سواه في مؤتمر غرناطة، أراد أن يبدأ من الصفر المختلف عن الصفر الذي سعت الى تحريكه ثقافة سابقة ما زال المحاضر محتفظاً بشيء منها في كلمته. وهذا أيضاً من مصادر التناقض في الكلام الذي سعى الى "نقض" مفاهيم وأفكار ما زالت تعبيراتها وألفاظها محتشدة في نصّه.
إنهما ثقافتان تتعايشان معاً، الثقافة المنقوضة والثقافة الناقضة. وهذا، لا بدّ، من ثمار معالجة المجتمعات العربية بالبيانات النظرية، تلك التي، إذ يحاول مؤتمر غرناطة العودة الى الماضي، تراه يعود الى البيانات النظرية التي سبقت، هكذا كأن التاريخ المتتابع لا يُصنع من توالي الوقائع والتحققات بل من وراثة أفكار لأفكار والحلول محلها.
في مؤتمر غرناطة دارت النقاشات في المجال النظري الأكثر علوّاً ولم يصب "الإبداع" العربي من ذلك إلا نصيب قليل، كما لم يصب الاجتماع العربي مثلاً إلا النصيب الأقل.
الدارسون الباحثون، القادم أكثرهم من جامعات العرب والعالم لم يذكروا، على سبيل التذكر أو الاستشهاد، دراسة اجتماعية ميدانية واحدة، ناهيك عن تقديم محور كامل حول الدراسات الاجتماعية الأخيرة في السنوات العشرين المنقضية. كان ذلك ضرورياً حصوله بالنظر الى أن أحد قطبي الندوة هو "التغيير الاجتماعي في العالم العربي".
أما الإبداع نفسه، الذي كان مقدّراً له ان يلقى بعض النصيب في كلمة إدوار الخراط، الروائي والناقد الأدبي، فكان حظّه مثل حظ نظيره في عنوان المؤتمر. أضاع إدوار الخراط، في كلمته، ليس فرصة الإبداع فقط بل أيضاً فرصة الكلام عن الفردية وأنواع ظهورها ومدى الحرية والوعي الذي بلغته الروايات في تصويرها لشخصياتها، أو لفرديّاتها.
في هذه السنوات العشرين الأخيرة، وهي الحقل الزمني الذي عُني به المؤتمر، اتسعت الرواية العربية حتى باتت مجالاً للدراسات الاجتماعية والنفسية، وهي القت قدراً من الضوء على بشر المجتمعات العربية بوصفهم أفراداً لا كتلاً.
هؤلاء، الأفراد، ضيّع إدوار الخراط فرصة ظهورهم ممتنعاً بذلك عن محاولة تفتيت الكتل الصلبة، بالقدر الممكن طبعاً.
الروائي التشيكي ميلان كونديرا استطاع، في كتبه الروائية والنقدية، أن يشير الى الدور الثوري الذي للروايات وذلك بمباشرتها تأريخاً جديداً للدول والمجتمعات قوامه تاريخ الأفراد وتشكّل الفردية.
لم يتمكن مؤتمر غرناطة من رفع معنى الرواية الى ذلك المصاف، كأن الكلام عنها، في ما لو حدث، لن يتعدى النقد الأدبي المعيِّن الأسماء والمراتب للروائيين العرب.
مؤتمر الإبداع والتغيير الاجتماعي لم يتطرق الى أي من هذين المحورين اللذين جعل منهما شعاره ومهمّته.
إدوار الخراط انضمت كلمته الى الكلمات الموصوف بعضها أعلاه فكانت مساهمة تالية، إضافية، لاقتراح كيف ينبغي أن يكون عليه حالنا.
وفي هذه الكلمة أيضاً ظهرت المقترحات التي هي صنو البنود كأنما من اجتهاد نظري انتقائي قوامه الاختيار والتفضيل فقط. "يجب ان نكون هكذا وليس كذلك"، على سبيل المثال. أما القوى الاجتماعية والسياسية التي يفاجئنا وجودها الآن ربما أكثر من أي وقت سبق، فيفاجئنا أيضاً قلبها للمعادلة بقولها "يجب أن نكون كذلك وليس هكذا".
هذه القوى لم تؤخذ بعين الاعتبار، أي أن اقتراحات التغيير التي جرى تعدادها غفلت عن وجود القوى الاجتماعية الفاعلة، والعنيفة في كثير من الأحيان، الحاملة للأفكار المتروكة المهملة، غير المتبنّاة في الكلمات.
سياحة في افكار منقطعة:
بدت كلمات المؤتمر، أو أكثرها، كأنها سياحة في الأفكار المنقطعة الارتباط بالبشر الذين يمثّلونها. ربما من أجل ان تكون هذه السياحة سهلة لم يُدْعَ أحد من حملة الأفكار تلك، غير المرغوب فيها. في غياب هؤلاء، كما في غياب العاملين في المجال الإبداعي عن النقاشات إذ انصرف بعضهم الى الكلام النظري العام واكتفى بعضهم بالتشكي من إدارة ظهر المؤتمر للشعر والرواية والسينما والفنون التشكيلية وسواها، أما الكلمات التي اقتربت من ذلك، مثل كلمتي ناصر الرباط وابراهيم الفاضل وأيضاً كلمة عبدالفتاح كيليطو، فقد وضعت من فورها خارج السجال وان ابقي عليها في مجال الترحيب والاعجاب آثر المؤتمر أن يبقى في تلك الحلقة الضيقة التي تتصادم فيها محاور الكلام المتجاورة، القريب بعضها الى بعض، قرباً يزحمها ويخلط بينها.
لم يكن ثمة حاجة للرجوع الى الدراسات الاجتماعية ولا الى الأعمال الإبداعية لأن المؤتمر قصر نقاشاته على بحث المسألة الأصلية، تلك التي يتجاذبها القطبان المتطرفان اللذان نتراوح فيهما بين الوجود الكامل والعدم الكامل.
ينبغي أولاً أن نعرف من نحن ومن هو الآخر منا أو من هو آخَرُنا. إن اهتدينا الى ذلك نكون قد اهتدينا الى جوهر الوجود الفاقدين له الآن. ونكون نصل الى ذلك الجوهر نفسه حين نعرف أي موقف ينبغي لنا ان نقفه بين متعارضَيْ الأصالة والحداثة.
هذه الأسئلة ربما ما زال هناك من يعتقد أنها قد تتفتّق عن إجابات. لكنها، برغم ذلك، استحوذت على أكثر المداخلات والنقاشات المتشابكة.
لم يجرِ الالتفات الى شيء قد يكون تحقق في السنوات العشرين المنقضية.
ذاك ان النقاشات التي تناقش في الصفر حلولاً لحال الصفر الذي نحن فيه، لا ترى في ما سبق أن تحقق انجازاً. إن ذلك الا نتاجاً من بداية متخبطة لأنها غير منطلقة من إدراكها لمعنى تحقّقها الأصلي.
ينبغي لذلك، لما ينجز في علم الاجتماع مثلاً، أو في الإبداع الأدبي والفني، أن يكون واعياً للأصل الذي انبثق منه، شأن ما كان الحال في الأدب الذي سمّي بالأدب الملتزم. ينبغي أن يتعيّن البدء حتى تتعيّن معه طريق ما بعد البدء.
مؤتمر غرناطة أبقى نقاشاته في منطقة الصفر تلك. ومن هذه المنطقة تساءل أحد المحاضرين عادل ضاهر، الذي قدّم الورقة الفلسفية عن السبب الذي يحول دون ان تنشأ من ثقافتنا فلسفة، هكذا كما لو أننا في أوج نهضتنا أو في ذروتها.
في المنطقة الصفر التي، فيما يجري فيها البحث عن البدء الكامل، يكون مقرّاً فيها اننا في حال الغياب الكامل. هذا اعتراف يزكّيه خلّو الكلمات والمواقف من النزعة الوجدانية التي من قبيلها الاعتزاز العميق بما تحقق لنا في تاريخنا الغرناطي والأسف العميق أيضاً لزواله وانقضائه.
لم يبدُ أن احداً من المتناقشين حمل دعوة مسندة الى تاريخ وجداني، قريب أو بعيد. مجرد القبول بإعادة تعريف النفس من البداية الأولى هو اطّراح لثقافة وسياسة ما كان يمكن تصورهما، أو تصوّر أي منهما، خالياً من العقائدية والحماسة الفائضة المصاحبة لها في العادة، كأن منطقة البداية تلك منطقة بداية فكرية ثقافية، ووجدانية أيضاً للقوم الذين بات يعوزهم الوجدان، ذلك الذي كان، الى أمد قريب، من خصائص وجودهم


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.