الكتاب: أبعد مما نرى الكاتب: هيفاء زنكنة الناشر: دار الحكمة، لندن 1997 في معظم قصص هيفاء زنكنة التي تضمها مجموعتها المعنونة "أبعد مما نرى"، هناك سعي للإحاطة بأحوال النساء. نساء متعبات أثقلهن العمر والتعب وجفّ نسغ الحياة في عروقهن. نساء وحيدات يبحثن عن شريك، ويسعين وراء شخص ينتبه لعواطفهن ويستوعب شجونهم. تعيش هؤلاء النسوة، وحيدات على الأغلب، في عالم قاسٍ وموحش تخيّم عليه العزلة والكآبة. تصطرع المشاعر المحبوسة في أوعية الجفاء. رغبات مدفونة وتطلعات مكبوتة وتناقضات حادة تفصل بين المنشود والمعيوش. يُضاف الى هذا الخواء الروحي برودة المحيط الذي يضيع في زحمة الإندفاع وراء الهموم الصغيرة والتوافه الإستهلاكية والانشغال المقلق بالسطحي والعابر. هناك افتقاد صارخ للدفء الإنساني والعلاقات الحميمة العميقة. وهناك، أيضاً، غياب للشغف والنشوة والشهوة بمعانيها الإنسانية الخصبة. ما يطغى هنا هو الفراغ ويباس العمر. نساء كبيرات في السن حبيسات كينونة صدأة. لقد كبرن وها هن يدفعن ضريبة العمر الذي مضى دون ضجيج، فإذا بهن يسعين الى التعويض عمّا فات بالتمسك بأي قشة. ولكن الحاضر لا يعد بالكثير. لقد تحوّل الناس الى أفراد يركضون وراء مشاغلهم الخاصة. وكأن هذا قدر حتمي لا بد من التسليم به. "ناس أقل، مشاكل أقل"، هذا ما تقوله "كارول" بطلة قصة "الإنصراف" لنفسها. لقد اقتنعت أن معرفتها للناس الكثيرين لم تجلب شيئاً ذا بال. تحس أنها أضاعت حياتها كلها وهي تصغي للآخرين. فمن يصغي إليها الآن؟ لا أحد غير نفسها. كارول موظفة بسيطة في الثالثة والعشرين من عمرها. وحيدة. تعمل بائعة في محل. تعمل ستة أيام في الأسبوع، وتعود منهكةً الى شقة استأجرتها من إحدى ساكنات بيوت البلدية. ليس لها سوى يوم واحد "تتمتع" فيه قليلاً: تشرب وترقص وتنام مع صديقها. علاقة مريحة للإثنين معاً. ولكنها علاقة تخلو من العمق والتواصل الروحي والانصهار المعنوي. هي علاقة نهاية الأسبوع وحسب، فإنها جزء متمم للعمل الروتيني الممل الذي تؤديه طوال الأسبوع. خارج هذين القطبين، قطب العمل وقطب العلاقة الجسدية مع صديقها لا شيء مبهج، زيارات لبعض الأصدقاء، تسوق، وتبادل أحاديث عابرة مع الجيران. الجيران؟ أجل فالعلاقة اليومية التي تكدر ذاتها تتم مع الجارتين: جين وصوفي. و"صوفي مثل جين، شبه عمياء وشبه صماء". وحين تريد صوفي تناول الطعام تنهض ببطء شديد كما لو أنها مكلفة بمهمة فوق طاقتها. وهي، بسبب كبر سنها، مبتلة العينين دوماً. وتراقب كارول جين وصوفي تتحدثان. وتخاطب جين صوفي قائلة: - صوفي، هل تذكرين يوم نشرت العلم البريطاني على سياج البلكونة؟ ويبدو الأمر عادياً لولا أن صوفي هي قطة. إنها قطة تربّيها جين وتهتم بها في البيت عندها. لأنها، أي القطة، بديل لكائن إنساني كان ينبغي أن يملأ فضاء جين ويبدد وحشتها ويخفف من ثقل الزمن ووطأة العمر عليها. وكلاهما عجوزان: جين وانحناءة ظهرها وصوفي البطيئة شبه العمياء. وهكذا فكأن بطلة القصة كارول، إذ ترى الى جين تشهد ما ستؤول اليه حياتها في المستقبل. وهي منذ الآن تجرجر أيامها وخطواتها بتثاقل تعاني الصداع ونوبات التقيؤ. إن الوحدة والوحشة تقصفان الأيام وتخنقان الروح ولا تخلّفان سوى حياة جامدة كالخشب. في قصة "حاجز" ينشأ لقاء عابر وسريع بين فتاة شبه مجهولة، لا نعرف الشيء الكثير عنها، غائبة ملامحها ومطموسة دواخلها، وبين شاب مجهول بدوره، يمضي مسرعاً في محطة للقطاء. تتابعه عن بعد. تسعى إليه في سرها. هو لا يدري بها على الأغلب. ولكن اللقاء المطلوب لا يتم ويضيع كل منهما وسط الحشد. العزلة والوحدة، هاتان هما الثيمتان اللتان تتكرران باستمرار. ففي قصة "عناق" أيضاً لا تجد المرأة، المتوسطة العمر، أحداً تذهب إليه وتنشد قربه. تصعد سلالم المحطة ببطء. ومرة أخرى يمر بمحاذاتها الشاب الذي ترنو إليه وتتمناه في أعماقها. يدخل وحيداً بدوره ويضيع وسط الزحام. ولكن المرأة الكهلة لا تطمع كثيراً في ترف اللقاء. فهي ليست أكثر من متسولة. عيناها محصورتان بين تورم جفنيها وخطوط تجاعيدها، وهي تكتفي، قنوعة، بمراقبة شبان وشابات يمضون مسرعين، متأبطين أيدي بعضهم بعضاً كأنهم علامات تجارية في مخزن كبير. لا تخفي المؤلفة في مقاطع كثيرة نزعتها المناهضة للقيم الإستهلاكية وغلبه اليومي والتجاري والعابر على النفوس. وهي تقع أحياناً كثيرة أسيرة خطاب تقريري يفسد القصة برمتها مصحوب بخميرة ايديولوجية ومطرز بقماش انشاني يندد بالنقود والسلع وعلامات الدعاية والإعلان. وفي قصة "خطوط متوازية"، تتصادم من جديد أجواء القلق والحيرة والاضطراب مع هواجس الرفض الأخلاقي للقيم المادية والخطاب السياسي الذي لا يفلح كثيراً في الاختباء وسط كرمة التعابير المحملة "رطانة" وتأففاً من النفاق والاستبداد والطغيان. الأنين والشكوى والإحباط واليأس، حالات يعاني من تكرارها أبطال القصة. تختلط مشاعر الحزن والخيبة والإنهاك مع أحاسيس القرف والاشمئزاز من الواقع المحيط. كأن انحباس الروح في قفص العزلة الكئيبة معادل وموازٍ للسقوط الفعلي تحت دولاب القهر والبؤس والحرمان. ووسط هذا المناخ الممزق والمخيف لا تبقى سوى كوة الذهن الداخلي يلجأ إليه الشخص ليرى منها إلى طفولة مضت وأيام تساقطت من شجرة القدر. تنهض الرؤية على جنبات انشداد نوستالجي إلى الماضي، إلى دقائقه المنصرمة، إلى مساحات حدوثه، إلى التراب والهواء ورائحة الزهور الجبلية. والأبطال، فوق هذا، مغتربون، انفصلوا عن جذورهم وانقطعوا عن التربة الأولى. وهنا، في الغربة تأتي صور البيت والعائلة والوطن لتكمّل الحياة الناقصة والجافة. ويختلط الحاضر البائس وأحداثه ضرب العراق، خراب البنية مع الماضي الذي كان يوماً ينغلق على أشياء جميلة. تستيقظ الطفولة في شقوق الذاكرة فتُقارن كآبة الأيام الجارية الآن مع بهجة السنوات الأولى من العمر. كأن هيفاء زنكنة، الكاتبة العراقية البعيدة عن ديارها، الضائعة مثل أبطالها في ضباب المنفى الاختياري تستعيد عبر القصص زمناً ما عاد ممكنا القبض عليه إلا من خلال أصابع الذاكرة. قصص تنجح أحياناً، وتفشل أحياناً أخرى، في التقاط الخيوط الدقيقة الذي تمتد بين عيدان الشعور الداخلي الراكن للمألوف والحميم والإحساس الخارجي بالحصار والتشتت والوحدة وسط زحام لا يكترث لأحد. قصص تمتلأ بتساؤلات عن الزمن والإنسان والعمر والموت وتعاقب الأجيال. كان لهذه القصص أن تكون أكثر سطوعاً وألقاً وتأثيراً لو أنها لم تختنق، بدورها، تحت ثقل مقاطع انشائية ومكامن للسرد الهذياني غير المتماسك في أحيان كثيرة والتي أعاقت جهد القاصة في بلورة المشهد وإضاءته بضوء قنديلها الذي كان باهراً في أغلب القصص.