القصة الشعبية فرضت نفسها من خلال شغفنا بها وحرصنا عليها ، فلماذا نحرص في مجالسنا وتعليمنا على القصة ؟ سؤال جواب سهل ، ذلك أن هناك مفاهيم تجريدية ذهنية وشعورية لا يمكن إيصالها إلا من خلال تمثيلها في قصة ولا يمكن قبولها أيضا إلا من واقع أو تمثيل لهذا الواقع ، كما أن هناك وقائع لابد أن ننقلها للعبرة والتسلية ولغرس القيم ، وإلا أصبحت مجهولة وأقرب إلى الخيال. والقصة الشعبية تتخذ من الواقعية منطلقا لها في أغلب الأحيان ، فهي في جذورها تبدأ من قصة وقعت بالفعل ثم تبني من خلال هذا الواقع اتجاها وهدفا، وهذا الاتجاه والهدف في الغالب مما يحتاج إليه المجتمع ويهتم منه أو يتمناه أو ينقصه ويراد غرسه و تنميته وتعزيز وجوده ، ويرسم الراوي عادة مثل هذا الهدف كالرحمة والكرم والألفة والشفقة وحسن المعاملة وحفظ الرفاق والتزام العهد والميثاق والمحافظة على الود والتسامح .. الخ والراوي بالطبع يتحكم فيها من حيث الرقابة على مضامينها فبيده وحده مقص الرقيب ، يحذف ويبقي ويرقق ويهول ، يحدد ما يناسب المجتمع وما لا يناسبه ويطوع القصة بحسب حالة المتلقي وقد يضيف الكثير من المحسنات بحسب الوقت والظروف وتقبل النفوس لما يقول. و هذا من أهم الأسباب التي جعلت للقصة الواحدة أكثر من رواية ، بحيث يشكك بعض المتلقين في مصداقية القصة أحيانا، أو ينسبها للقصص الخيالية أو الأساطير الشعبية عندما يقع في حيرة، وينشأ خلاف عريض بين المتلقين أحيانا نزاع على قصة مضامينها واحدة ولكن كل ينسبها لأجداده، والصحيح أنها قصص متعددة متشابهة، أو العكس ينشأ من القصة الواحدة عدة نسخ والرواة لكل منهم نسخة مختلفة من القصة الواحدة، رسموا هدفاً وتحكموا فيما يخصهم من نسخ نشروها في مجتمعهم، منطقة أو مدينة أو بادية. ولكل قصة شعبية في الغالب جذورها الحقيقية، ولكنها عندما تفرعت كشجرة قام مقص الرقيب بتقليم تلك الأغصان منها والورق وهذبها بل وربما وهم ونسي وتصرف بغرض، وبدت فروعها مختلفة بينما جذورها تتحد مع غيرها ولا يكاد النسق الفني يختلف أيضا . ولعلي آتي بقصص وأكتفي بعناوينها وموجزها فقط، بحيث نقتصر على القصص المثيرة أو الغريبة أو النادرة الحدوث، وهذه الصفات من الإثارة والغرابة والندرة هي التي جعلت للقصة حضورها في الأذهان وتجاوبت معها الأحاسيس والمشاعر وأقبل عليها المتلقي يطلب أمثالها لأنها ليست عادية، ولكنها تكون عادية تماماً عندما تفقد غرابتها ويتكرر مثيلاتها . من ذلك : قصة معشي الشجر، و قصة معشي الذيب، و قصة مخاوي الذيب. لقد برزت هذه القصص بسبب غرابتها لا بسبب آخر ولا بسبب الشخصية، ولهذا ينصب الاهتمام على موضع الغرابة باعتبارها عقدة أو مشكلة، وينشأ سؤال يبحث عن جواب أثناء الدهشة وعرض القصة، فتبقى مسلية وهادفة أيضا. والقيمة النبيلة التي تحملها تجعل الكثيرين يرغبون في نسبة القصة عادة لهم ولأجدادهم، سواء بحق أو بدونه، لأن الكل يرغب في الخصال الطيبة ويتمنى وجودها فيه وفي جذوره. والقصص الشعبية أغلبها ذات بناء أدبي قوي يركز على الحدث ويجعله أساساً لا يقبل التفرع إلى هوامش لا تضيف للمتلقي قيمة إيمانية أو خلقية وفضيلة وسموا . ولكي نؤكد على ذلك في مضامين القصص التي وردت عناوينها فإن الإشارة إلى القيمة في كل منها كالتالي : معشي الذيب : تروى لبطلها الحقيقي أو لحفيده على سبيل المثال ،ثم يتوقف الحديث عن بطل القصة تماما تم تسرد القصة من راوٍ وآخر ويفترض لها بطل آخر وثالث ورابع ومعلوم ومجهول وبدون اسم ويكتفى باللقب، باعتبار الحدث هو المهم، فينتقل اهتمام المتلقي إلى المضمون، ويركز على التفاصيل وأن معشي الذيب سمع صوت (قنيب الذئب) وهو العواء الحزين عندما يتضور جوعاً فرحمه وبطبيعة كرمه ربط له شاة ليأكلها، ولو كان هذا الذئب فيه قدرة وحيلة لأخذ قراه بنفسه وبقوة وحصل على رزقه كالمعتاد ولكن حالته فريدة ففيه عجز الضعف والكبر وصد الكلاب وغلبتها له فصار في جوع ومأزق مما جعل للحدث هذا والقصة مبررا مقبولا، وإلا فإنها في الحالات العادية مع بقية الذئاب ليست تصرفا مستساغا ولا مقبولا، وبهذا يكون لصاحبها أيا كان، مكانة مهمة في قائمة الكرماء، والقصة تروى من 140 سنة تقريبا، ولا تزال تروى في صفحة الرحمة والكرم والتصرف الحسن والمبادرة الطيبة. وأما قصص معشي العوشز ( العوسج ) ومعشي الشجر، ومعشي الطرفا: بكل تعدداتها، فإن ميدان تغطيتها أيضا هو الكرم، وتشابه إلى حد كبير بقية القصص ولكن تفردها من حيث مسببات الحدث نفسه، فمثلا معشي الشجر صادف انتظاره وترقبه يوم فيه غبار ورياح، ورأى الشجر يتحرك فظنهم ضيوفا وذبح خروفين، ولما تبين الأمر وزع الطعام على جيرانه ومن حوله في المفيجر في ناحية الحريق، وهذا التوهم يأتي لأسباب عديدة أهمها انتظاره الدائم واستعداده النفسي لذلك وتوقعه قدوم ضيوف لمكانه، أو رغبته في الضيوف وحرصه على الكرم وكلها أسباب ذات صلة، وهدفها الترغيب في قيمة مهمة وهو الكرم، كما أنها ليس خيالية بل واقعية وممكنة الحصول، وقد تم التركيز على الهدف، أما أن تنسب لشخص محدد فهو من التوثيق لا أكثر ثم تعددت نسخها عند الرواة وسوف يستمر نسخها مرارا ليتولد منها قصص لأنها فعلا قصص تعددت مع أكثر من واحد. أما قصة مخاوي الذيب : فتختلف قليلا لتظهر لنا بأهداف محورية متعددة أهمها حفظ الخوة والرفيق، وامكانية الصداقة مع الحيوان وهو هنا الذئب على الخصوص ولم يظهر في القصة مجال للشجاعة وإنما لرباطة الجأش والتعامل مع الحيوان المفترس، وإن كان اليوم من الأمور العادية بعد أن تعدد من يتعامل مع النمور والأسود والثعابين السامة وغيرها. وقيمة القصة في غرس وتنمية الحكمة وحسن التعامل ورد المعروف ، فخوي الذيب لم يلجأ للقتل والعدوانية لكي ينجو بنفسه في المفازة والصحراء، ولكن جعل من الكرم والمصاحبة طريقا للألفة وقد نجح في هذا وهي تجربة غير مسبوقة وبالتالي هي لافتة للانتباه مشوقة للمتلقي . ويكون الدفاع عن الرفيق هنا ( الذئب ) فيه نوع من المفاخرة يعادل الدفاع عن الإنسان في منظور بطل القصة، ويتجاوب المتلقي مع النهاية لأنه مشبع من المبررات في البداية . الرجل يطعم الذئب من طعامه عدة مرات، والذئب يستسلم ويسالم ويبدي صداقة ومبادرة لهذه الصداقة، ثم يأتي ب ( البو ) وهو جلد ولد الناقة لكي تتبعه بقية الابل، ويكون هو الذي يساعد رفيقه في إحدى الروايات مفاصل مدهشة ومقاطع غريبة ومقبولة وممكنة. إذاً قيمة القصة في مضمونها فقط وهدفها، وليست في شخص أو مكان ، ولا يختلف عند المتلقي كون بطل القصة المهم لديه أنه هناك [ مخاوي الذيب ]. وقد يقلب الرواة أهداف القصة بحيث يبالغون في مفصل من مفاصلها أو نهايتها بغية الإثارة بحيث تتحول إلى مشكلة لم تقع أصلا فتكون شطحات غير موفقة والسبب هم الرواة عندما يفقد أحدهم الحكمة. إننا في حالة عدم الاهتمام بالقيمة نضيع الوقت في سماع أي قصة ونشتغل بما لا نفع فيه، ولم يذكر عن المجتمع الماضي أنه يمضي وقتا بدون فائدة أو يصنع شيئا لمجرد ملء الفراغ، والقصة الشعبية نتاج المجتمع الذي يعرف ما يقول تماما ويدرك أنه يستفيد من نتاجه الأدبي هذا. ومما يؤكد اهتمام المجتمع بالقيمة والمضامين والأحداث التي تحملها القصة هو اسناد الكثير منها للمجهول النكرة من الأفراد والمجتمعات والبلدان، وبالتالي ترد العديد من القصص مبتورة البطل والمكان (كان فيه واحد) (كان فيه مسافر) (يقال إن فيه جماعة) فهذه عبارات تبدأ بها القصة أحيانا لتنكير البطل و تهميشه، ومع هذا تكون متبلورة الفكرة والحدث واضحة المضامين مؤثرة جدا في المتلقي موصلة للهدف دون مشتتات الشخصنة وما يتعلق بها أو الافتخار بها، بل الاكتفاء باستعراض أعمالها فقط . أما ضرورة القصة في البادية خاصة والمجتمع القروي المنعزل فإنها تريح كثيرا من الناس وتعوض عن فقد أخبار من حولهم في حالة الانشغال بأعمالهم والعزلة في الصحراء، فحياة البادية وأهل القرى فيها كثير من العزلة أو تكرار الحدث نفسه وبالتالي فإنهم يتشوقون للآخرين ومعلومات ما حولهم ليعرفوا ما هم فيه بالضبط وما الذي يجري في المجتمع الإنساني من حولهم للمحاكاة والمقارنة.