"... ونهكت الأسقام إبراهيم، فنقل الى المستشفى الفرنسي في القدس، وبعد أيام قليلة، وفي مساء يوم الجمعة، الثاني من شهر أيار مايو سنة 1941 أسند ابراهيم رأسه الى صدر أمه، وقد نزف دمه، وخارت قواه، وهناك أسلم روحه الطاهرة الى بارئه، واستراح استراحة الأبد. كان لإبراهيم - رحمه الله - مصحف صغير، لا يخلو منه جيبه، متبركاً به من جهة، وليكون في متناول يده كل حين من جهة أخرى. فلما توفاه بارئه، كان ذلك المصحف تحت وسادته، ولا تزال الى اليوم ثنية ثناها في إحدى صفحات سورة التوبة، وكانت هذه الآيات الشريفة آخر ما تلاه ابراهيم من كتاب الله أثناء مرضه...". ابراهيم هذا هو الشاعر الفلسطيني ابراهيم طوقان، الذي رحل يومها عن ستة وثلاثين عاماً وكان لا يزال في اوج عطائه. أما من يروي ساعاته الأخيرة على هذه الشاكلة فهي شقيقته الشاعرة فدوى طوقان التي كرست لحياته كتاباً عنوانه "أخي ابراهيم"، ولم تتوقف حتى الآن عن إحياء ذكراه في كل مرة يكون هذا ضرورياً. على الرغم من الحياة القصيرة التي عاشها، عرف ابراهيم طوقان خلالها الكثير من المشقات والآلام، وهي كلها كانت سرعان ما تنعكس في شعره الذي بدا على الدوام متراوحاً بين الرومانسية والكلاسيكية، وعبر في العديد من قصائده عن الأوضاع التي كانت فلسطين تعيشها خلال الثلث الأول من القرن العشرين، أي تلك الحقبة التي يعتبر ابراهيم طوقان احد ابرز شعرائها، الى جانب عبدالرحيم محمود. ولد ابراهيم طوقان في مدينة نابلس في 1905. وهو منذ صباه الباكر تفتح، وسط عائلة تميل الى العلم والأدب معاً، على روائع القصص الشعبي، وعلى الشعر العربي الكلاسيكي. وكان لا يزال في عامه العاشر حين بدأ يحاول تقليد الحكايات الشعبية والأشعار التي كان يحفظها. وقد تلقى دراسته الابتدائية في "المدرسة الرشادية الغربية" التي كان يدرّس فيها اساتذة ضليعون في العربية من خريجي الأزهر في القاهرة، ممن كانوا منفتحين على أشعار حافظ وشوقي ومطران، مما أعطى طلاب المدرسة، ومن بينهم ابراهيم طوقان، توجهاً حداثياً لا ريب فيه. وبعد أربع سنوات امضاها في تلك المدرسة وأسسته تأسيساً عربياً قوياً، انتقل ابراهيم الى مدرسة المطران في القدس حيث نال دراسته الثانوية، لينتقل بعدها الى الكلية الإنكليزية ومن ثم الى الجامعة الأميركية في بيروت، في فترة كان قد بدأ فيها بمحاولة كتابة الشعر، مستوحياً المناسبات التي تعرض له لذلك. أما قصيدته الأولى التي عرفت طريقها الى النشر فكانت تلك التي نشرت، حاملة اسمه، في 1923، أي في العام الذي انتقل فيه الى بيروت حيث كان من حظه ان بدأ الاختلاط بعالم الجامعة الأميركية، ولكنْ خاصة بعالم الأدب من خلال تعرفه بسعيد تقي الدين الذي بدأ يوجهه توجيهاً صحيحاً في عالم كتابة الشعر حسبما تذكر فدوى طوقان. فكانت بعد ذلك قصيدته "ملائكة الرحمة" التي لفتت اليه الأنظار وحددت مساره الشعري واستخدامه الحديث والبسيط للغة في كتابة شعر يزخر بالصور. وبالتواكب مع بداياته الشعرية الحقيقية تلك بدأت الأمراض تنخر جسد ابراهيم طوقان وعملت على تأخير دراسته، إذ انه بعد ثلاث سنوات امضاها في الجامعة الأميركية اضطر للعودة الى نابلس ليمكث فيها فترة، يعود بعدها الى الجامعة الأميركية في بيروت حيث كان له غرام أول بفتاة فلسطينية تتلقى العلم هناك، فبدأ يكتب فيها قصائد مميزة ساهمت في اضفاء طابع رومانطيقي على شعره ككل. في 1929 تخرج ابراهيم طوقان من الجامعة. وبدلا من أن يعمل ويعيش في مصر كما كان يرتجي، نراه يعود الى نابلس حيث مارس التدريس لمدة عام في مدرسة النجاح، وهو خلال ذلك العام، وتحت وطأة الظروف السياسية، راح يكتب وينشر الشعر الوطني الذي كانت أشهره قصيدته "الثلاثاء الحمراء" التي تتحدث عن اعدام شهداء فلسطين الثلاثة فؤاد حجازي ومحمد جمجوم وعطا الزير. بعد مدرسة النجاح عاد ابراهيم الى بيروت، مدرّساً في الجامعة الأميركية هذه المرة، وعاد الى كتابة شعر الغزل، وفي أواخر 1932 كان قد ترك بيروت وعاد الى القدس مدرساً في "المدرسة الرشيدية" في وقت راحت الأمراض تشتد عليه من جديد. وفي 1936 تحول من العمل التدريسي الى العمل الإذاعي، حيث تسلم مسؤولية القسم العربي في اذاعة القدس التي تأسست في ذلك العام. وهو من خلال عمله الإذاعي راح يبث النصوص والأشعار مقبلاً على الكتابة بكثافة ملحوظة، في الوقت الذي راح فيه يخوض معركة حادة ضد أولئك الذين كانوا يريدون اعطاء اللغة المحكية الاولوية على الفصحى في البث الإذاعي. وهو في النهاية خسر تلك المعركة كما خسر غيرها فاضطر الى ترك العمل الإذاعي في 1940، ولكن لم يكن قد تبقى له سوى شهور يعيش خلالها. آنذاك زار بغداد حيث كان يفترض به ان يعلّم لسنوات في "دار المعلمين"، لكن المرض سرعان ما اقعده، ليقضي عليه بعد شهور قليلة، من دون ان يخلف سوى القليل مما كان يحلم بكتابته ونظمه.