في أيار مايو 1993 كانت الهند تستقبل وزير خارجية اسرائيل استقبالَها رؤساء الدول. لم يبق وزيرٌ تقريباً أو صحافي، إلا عبّر عن اعجابه بالدولة العبرية وتجربتها. أما البيان الختامي والكلام الديبلوماسي الذي رافقه فتحدث باختصار شديد عن التعاون في مجال "الطاقة الشمسية" والميدان "العلمي - التقني". هذه الاشارات حملت على شيء من التكهّن، خصوصاً أن اسم بيريز ارتبط، بين ما ارتبط به، بنشأة الترسانة النووية في بلاده. بيد أن الاشارات والتلميحات لا تدل الى أي شيء مؤكّد بطبيعة الحال، لا سيما أن "الزهر" هيمن على الكلمات والخطب. وقصة الزهر غدت رمزاً لقصة الزراعة التي تُعتبر أهم ما في العلاقات التجارية الاسرائيلية - الهندية. ذلك أن أكثر مزارع اسرائيل تقدماً، وهي التي تنتج 400 مليون زهرة سنوياً، تديرها تعاونية يعمل فيها مهاجرون من كيرالا الهندية. وهؤلاء ضربوا الرقم القياسي إذ أنتجوا أربعة ملايين زهرة في الهكتار الواحد، اي ضعف المعدل الوسطي للانتاج الوطني. والمسافة بين الزهر والذرّة بعيدة جداً. مع هذا يجد بعض المراقبين عناصر تجمع بين الكيانين يُخشى أن تكون قد تطورت في العتم وولجت البوابة المحرّمة. فطويلاً ما قيل إن باكستان، لا الهند، هي التي تشبه اسرائيل لقيام الدولتين على الدين، واعتبارهما الوطنية وعاءً للهوية الدينية، وكون الاثنتين دولتين اقليّتين في محيطهما: واحدة مسلمة في نطاق هندوسي وأخرى يهودية في مدى عربي - اسلامي. وكانت تدعّمت وجهة النظر هذه خلال الستينات بسبب التحالف الوثيق بين عبدالناصر ونهرو، ومن ثم بقاء ابنته أنديرا في فلك النفوذ السوفياتي. غير أن حسبة الأقلية والأكثرية يمكن أن تسلك وجهةً أخرى: فالهند تتحول هي نفسها بلداً أقلياً اذا كانت المقارنة مع الصين، لا مع باكستان، فكيف وأن نيودلهي أكدت وتؤكد أن بكين، لا اسلام آباد، هي دافعها الى تجاربها النووية؟ ولإسرائيل بدورها حساب مع بكين التي تتهمها بالتعاون مع موسكو لإمداد ايران أسلحةً وصواريخ نووية، وهي تهمة تصدر عن واشنطن بالحدة نفسها. فإذا صحّ ان الصين تزوّد باكستانوايران سلاحاً نووياً، أو مواد ضرورية لانتاجه، بدت اسرائيل اليهودية والهند الهندوسية في موقع مقابل لبلدين مسلمين طلبا الذرّة ولو في... الصين. ولئن شهد العقد الأخير تطوراً ايجابياً ملحوظاً في العلاقات الهندية - الاسرائيلية، بقي أن وجود بهاراتيا جاناتا في السلطة لا يملك الا ان يذكّر بوجود ليكود في السلطة: فالاثنان حزبا "هويةٍ" قومية، متزمتة ومتعصبة، والاثنان يجدان في "المسلمين"، الفلسطينيين مرةً والهنود والكشميريين مرةً أخرى، عدوّهما المشترك. والاثنان حينما يدافعان عن تطرفهما في الشؤون الاقليمية، وحين يشددان على خوفهما من الجوار: العربي - الايراني بالنسبة الى اسرائيل والصيني - الباكستاني بالنسبة الى الهند، يشددان على انعدام الديموقراطية في الجوار المذكور، فيقولان كلام حقٍ أريد به باطل. على ان هذه الافتراضات وغيرها مما أثار في الأيام الأخيرة بعض التكهن في صدد "تعاون" نووي هندي - اسرائيلي، تصطدم بخوف اسرائيل من الغضب الأميركي المؤكد في حال صدق التكهن. ومثل هذا الاستدراك، ومعه استدراكات فنية وتقنية، تنبّه الى ضرورة التروّي وعدم الاستسلام الى تحليل مؤامراتي آخر. فأحدٌ لا يستطيع أن يجزم بصدق الافتراض، لكن أحداً، في المقابل، لا يستطيع أن يجزم بكذبه أيضاً. فنتانياهو يبدي من التجرؤ ما لم يكن لأي خيال سياسي عادي أن يتخيّله. أما أن تصير بلاد المهاتما غاندي بلاد التجارب الخمس المتلاحقة، فهذا يجعل كل شيء ممكناً.