Christophe Jaffrelot. La De'mocratie en Inde. الديموقراطية في الهند. Fayard, Paris. 1998. 322 Pages. تشكل الديموقراطية الهندية، من اكثر من وجهة نظر، استثناء. فهي، اولاً، اكبر ديموقراطية في العالم. وبالمقارنة مع ثاني اكبر ديموقراطية في العالم، الولاياتالمتحدة الاميركية، فانها تزيد بالحجم السكاني ثلاثة اضعاف ونصف الضعف: 950 مليون مواطن هندي مقابل 270 مليون مواطن اميركي. وهي، ثانياً، النموذج الديموقراطي الثابت الوحيد في البلدان المتخلفة. وصحيح ان عدداً من البلدان المتخلفة عرفت وتعرف اشكالاً عابرة ومتقلبة من الديموقراطية، ولكن النموذج الهندي هو الوحيد الذي يتمتع بالاستمرارية التاريخة. فهو مستمر، بلا اي قطيعة او انقلاب، منذ 1947، عام استقلال الهند، بل ربما منذ 1920، وهو العام الذي شهدت فيه الهند انتخاباتها العامة الاولى في ظل الاحتلال البريطاني. وهذا الشكل من "البرلمانية الكولونيالية" الذي عرفته الهند منذ ان أقر المستعمر البريطاني تطبيق المبدأ الانتخابي في الهند عام 1882، يحدد ثالثة سمات الديموقراطية الهندية: فهي ديموقراطية بالمثاقفة. ما الذي اتاح لهذا الاستثناء الديموقراطي الهندي امكانية الوجود والبقاء؟ انه اولاً نظام الاحزاب. فما من ديموقراطية برلمانية تستأهل فعلاً هذا الوصف تستطيع ان تعمل بلا نظام احزاب. بل ليس من ديموقراطية اصلاً اذا لم تتواجد احزاب مهيأة لخوض المباراة الانتخابية. وقد توفرت للهند فرصة تاريخية نادرة منذ ان امتنع حزب المؤتمر، الذي قاد الحركة الاستقلالية، عن تنصيب نفسه عام 1947 حزباً اوحد. بل اكثر من ذلك: فحزب المؤتمر، الذي كان تجمعاً اكثر منه حزباً ايديولوجياً، انشق هو نفسه وتفرع الى عدد من الاحزاب، ومنها الحزب الاشتراكي الذي شكلته العناصر المؤتمرية اليسارية عام 1948، وحزب شعب العمال والفلاحين الذي اسسه كريبالاني في 1951 بعد استقالته من رئاسة المؤتمر. وليس حزب المؤتمر الحاكم هو وحده الذي تقيد باللعبة الحزبية، بل كذلك قوى المعارضة، سواء منها اليسارية او اليمينية. فالحزب الشيوعي الهندي، بعد ان تورط في 1948 في حرب غوار فلاحية، عاد في 1951 يعلن التزامه بالشرعية الدستورية وباللعبة البرلمانية. كذلك فان الحزب القومي الهندوسي اليميني المتطرف، المعروف باسم بهاراتيا، تقيد بقواعد المباراة الانتخابية رغم عدم حماسته للفكرة الديموقراطية اعتقاداً منه بأن الامة الهندية تتجسد في الهوية الهندوسية وبأنه ليس هناك من خيار آخر امام الاقليات القومية والدينية، وفي مقدمتها المسلمون، سوى الاندماج في الثقافة السائدة. ويدين التقليد الديموقراطي في الهند بدَيْن غير قليل للزعامة النهروية. فالمهاتما غاندي، مثلاً، ما كان يكنّ للبرلمانية "المستوردة" احتراماً كبيراً، وكان يعتقد ان المأوى "الاصيل" للديموقراطية الهندية هو القرية. ولكن البانديت نهرو هو الذي اصرّ على ان يكون بيت الامة هو البرلمان. وهذا التقليد تابعته من بعد ابنته انديرا غاندي، رغم كل ما يمكن ان يقال عن نزعتها السلطوية. فعندما تحالفت احزاب المعارضة ضدها وأفلحت في انتزاع الغالبية البرلمانية في انتخابات 1977، لم تعمد ابنة نهرو الى حل البرلمان الجديد، بل خضعت لحكم صناديق الاقتراع، واستقالت من منصبها كرئيسة للوزراء في اول عملية تداول للسلطة في تاريخ الهند المستقلة. وهذه السابقة ادخلت الهند في النادي المحدود العضوية للديموقراطيات التي تستطيع تبديل حكوماتها بطريقة سلمية. وبالفعل، فقد ترك حزب المؤتمر الحاكم سدة الحكم، امتثالاً لارادة الناخبين، ثلاث مرات على التوالي في العشرين سنة الاخيرة. وعلى هذا النحو غدا التناوب على السلطة آلية عادية في حياة الهند السياسية. والحال ان الديموقراطية ليست شيئاً آخر في نهاية المطاف سوى هذه القدرة المتاحة للمحكومين على تغيير حكامهم نظامياً، وربما دورياً، بواسطة بطاقة الانتخاب. وتستمد الديموقراطية الهندية احد مقومات بقائها من وجود سلطات مضادة. واحدى هذه السلطات الولايات الاتحادية التي تتشكل منها الدولة الهندية. فالاتحاد الهندي يتألف من 25 ولاية، وكل ولاية تكاد تكون دولة قائمة على حدة، وغالباً ما تكون متمايزة باللغة والابجدية والاثنية. وحكومة كل ولاية تنتخب بالاقتراع العام وتكون مسؤولة امام برلمانها المحلي وتخضع، كالحكومة المركزية، لمبدأ تداول السلطة. ولا يبعد ان تكون حكومات بعض الولايات معارضة للحكومة المركزية. وعندما يكون حزب المؤتمر حاكماً في نيودلهي، فقد تكون احزاب معارضة له يميناً او يساراً حاكمة في البنجاب او كيرالا او كشمير. وبالاضافة الى هذا التمايز ما بين السلطة المركزية والسلطات المحلية، تعرف الهند درجة عالية من الفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية، ولا سيما القضائية. فالمحكمة العليا ومحاكم ولايات الاتحاد قد تصدر احياناً احكاماً معاكسة لمصالح الزعماء السياسيين. وقد اضطرت انديرا غاندي نفسها ذات مرة الى ان تعلن حالة الطوارئ كيما توقف مفعول قرار قضائي بابطال عضويتها في البرلمان بعد ثبوت ارتكابها لمخالفات اثناء حملة 1971 الانتخابية. وتتمتع الهند بسلطة مضادة متطورة للغاية هي سلطة الصحافة. ففي الهند اليوم اكثر من ثلاثة آلاف صحيفة يومية، ونحو من عشرة آلاف مجلة اسبوعية. وقد ارتفع توزيع صحافتها اليومية من 6.3 مليون نسخة في 1958 الى 9.29 مليون نسخة في 1993. كما ارتفع توزيع صحافتها الاسبوعية في الفترة نفسها من 9.3 مليون الى 3.21 مليون نسخة. وهذا مع ان حوالي نصف سكان الهند ما زالوا من الاميين. والواقع ان الامية كانت ولا تزال تشكل العقبة الكبرى امام تطور ثقافة الديموقراطية وممارستها في الهند. ولا شك ان الهند المستقلة احرزت تقدماً مرموقاً في مكافحة الامية. ففي عام 1951 كان 33.18 في المئة فقط من سكانها يجيدون القراءة والكتابة. وقد ارتفعت هذه النسبة في 1991 الى 11.52 في المئة. ولكن المفارقة انه في الوقت الذي انخفضت فيه معدلات الامية نحواً من ثلاث مرات خلال تلك الاربعين سنة، فان تعداد الاميين بالارقام المطلقة قد تزايد. ففي 1951 كان تعداد الاميين 295 مليوناً، فصاروا 395 مليوناً في 1991، اي بزيادة 100 مليون. وهذه المفارقة لا تجد نفسيرها الا في المعدلات المرتفعة للنمو السكاني في الهند. ففي 1951 ما كان سكان الهند يزيدون على 361 مليوناً، فغدوا 846 مليوناً في عام 1991، وهم يقتربون اليوم من عتبة المليار. اما العقبة الثانية امام حيوية الديموقراطية في الهند فهي الفقر. فحسب المصادر الرسمية، فان 38 في المئة من سكان الهند، اي نحواً من 360 مليون نسمة، يعيشون تحت عتبة الفقر. واذا اخذنا بعين الاعتبار ان آفة الامية تختار ضحاياها من بين الفقراء بالدرجة الاولى، فان العقبة تغدو مزدوجة، وبالتالي اكثر صلابة وكؤودة بما لا يقاس. ومع ذلك، فان التهديد الاكبر الذي يواجه تجربة الديموقراطية في الهند هو صعود من الاصولية الهندوسية. والمفارقة ان الخطورة التي تمثلها هذه الاصولية على الديموقراطية الهندية لا تكمن في كونها معارضة لها، بل على العكس في كونها حاضنة لها. فحزب بهارتا جاناتا القومي الهندوسي المتطرف، الذي فاز بأغلبية مقاعد ضئيلة في انتخابات شباط فبراير 1998، لا يعارض من حيث المبدأ الديموقراطية، بل يتأولها على انها حكم الغالبية، ويتأول الغالبية نفسها على انها غالبية الطائفة الهندوسية. ومن ثم فهو يطالب بأن تغدو لغة الطائفة الغالبة وابجديتها وثقافتها هي اللغة والابجدية والثقافة السائدة في الهند. كما انه لا يضع موضع تشكيك مبدأ الديموقراطية الحسابي الاول: صوت واحد للناخب الواحد. ولكنه اذ يتأول الغالبية العددية على انها غالبية طائفية يحولها الى غالبية دائمة ومتعالية على مبدأ تداول السلطة. فالهندوس هم الغالبية، والحكم يجب ان يكون لهم بصورة دائمة. وبديهي ان هذا التفسير الغالبي والطائفي للديموقراطية يلغي مضمونها التعددي، وهذا في بلد مثل الهند لم يحافظ على وحدته عبر القرون الا من خلال بقائه متنوعاً. فالخريطة الحضارية للهند اشبه ما تكون بفسيفساء من الديانات واللغات والاثنيات. وخطر الاصولية الهندوسية هو خطر الواحدية في بلد يعتنق سكانه سبع ديانات، ويتكلمون بثماني عشرة لغة "دستورية"، ويتوزعون الى اكثر من اربعين اثنية رئيسية.