في آخر سطور كتبها نزار قباني، أو أملاها، وطلب فيها دفنه بدمشق بجوار بعض من أحب وبقي منه جثمان معروف ومثبت، قال قباني إن مدينته علمته "أبجدية الياسمين". فلم تبق وكالة أنباء أو نشرة أخبار متلفزة، ووكالات الأنباء ونشرات الأخبار المتلفزة ليست إماماً للذوق الشعري، إلا ورددت صدى العلم الغريب و"الشعري" الذي نسبه الدمشقي الراحل إلى مدينة أهله ومسرح طفولته وفتوته. فكانت الجملة "علمتني أبجدية الياسمين"، آخر نثرة من ثَقَل الرجل الشعري وجَهازه، وآخر نتاج من لغته ومن منواله وطرزه. وتعرفت وسائط الإتصال والإعلام والإعلان ووسائلها، الطرزَ والوسم. فنشرت الجملة العتيدة في الناس والجمهور، وأذاعتها فيهم، فيتقاسمونها ويتبركون بها. فكانت "أبجدية الياسمين" كلمة التعارف، الأخيرة أو الأولى لا فرق. فالميراث دائري، بين الشاعر الراحل وبين جمهوره المقيم على عهده "الشعري". واتصل التعارف، من غير انقطاع، من الشاعر نفسه إلى الجمهور العريض والكثير بواسطة الوكالات والتلفزيونات. فلم ينكر أحد بين طرفي السلسلة المتصلة أن هذا هو الشعر، وأن القائل أو الكاتب، إذا قصد أن يقول قولاً شعرياً، إنما عليه أن يقول مثل هذا القول وعلى هذا المثال المعروف والمتعارف. وهذا جزء من "الظاهرة" النزارية، على ما قد يحلو للمتحذلق في بعض أوقاته أن يقول. وهو جزء منه كبير، وما أطنب فيه القائلون، الراثون والمادحون وهم جملة القائلين في المناسبة، القول. ولعل أظهر ما في الأمر وأبرز هو مجيئه مجيء التمثيل الواضح على موضع القول النزاري من جمهور الشعر العربي اليوم، وعلى علاقة جمهور الشعر بالقول الشعري، أو ما يُحمل على الشعر ويجري مجراه. وقد يتجرأ المراقب فيقول إن هذا التمثيل لم يأتِ عفو الخاطر، ولم تفِض به قريحة حل فيها جنيُّها الملهم، وبعثها على الإنشاد. فالجملة المتعارَفة تصدر عما يشبه العهد والعقد والتواضع. وشرطها، أي شرط قيامها بالتعريف والتذكير، هو ألا تخرج عما سبق التعاقد عليه وتعريفه ونعته. فهي، أي "علمتني أبجدية الياسمين"، بالغمز أو بالإيماء أشبه. فكأن صاحب كلمات الأغاني التي غنتها نجاة وماجدة الرومي، وغناها كاظم الساهر، لا يعدو مهر الكلام بتوقيع، أو ميسم، لا يشك في أن الجمهور لن يتردد لحظة واحدة في إثبات قائلهما ومعرفته حق العلم وأوَّله. وقد يكون هذا ما قصد إليه بعض من لم ينس كتابه المدرسي في الأدب العربي فقال إن نزار قباني هلهل الشعر، وألقى به إلى الناس، إلى عامتهم وجمهورهم، فتناقله الناس، وجعلوه والشعر واحداً. فكان طريقهم إلى العبارة، العامية و"الجمهورية" وينبغي القول: "القومية"، إذ تجمع العربية، اليوم، الجمهور إلى القوم، عن أحوالهم، وأولها حالهم النسوية أو الغرامية والعشقية، على ما أطنب غير شارح ومعلق. والعبارة عن الحال ليست مرآة صماء ولاحقة لحالٍ حية وسابقة، على ما يعلم الماديون الجدليون فكيف بالبنيويين التفكيكيين. فهي، أي العبارة، جزء عظيم من إنشاء الحال وإيجابها وصنعها. وعلى هذا ضلع نزار قباني، منذ نصف قرن ونيِّف، في إمامة الهوى "العربي"، وفي ابتداء طرائقه وريادة سبله وابتداع لغته وابتكارها. فيصح الخلوص من هذا، "سوسيولوجياً" ولم لا "انتروبولوجياً" بل "إثنولوجياً" و"إثنوغرافياً"، إلى أن الإبتداء والريادة والابتداع إنما وافقت، في أمر الهوى وموضوعه، هوى شائعاً في الجمهور وفاشِياً فيه، "اقتصر" نزار قباني على إخراجه من إضماره وسكونه إلى العلن واللفظ المعرِب. وهذا دور يدور، ولا ترجى فائدة من تقصيه على هذا الرسم ولا يستوفيه قول قاطع وشافٍ. فمن يرى أن صاحب "طفولة نهد" و"أنتِ لي" وهذا من عناوينه المنسية أو المهملة أخرج "المرأة" - وليس النساء الكثيرات بكثرة أعيانهن وأفرادهن؟ - من حال الشيء، أو "الرق" على قول امرأة عظيمة الشأن، إلى حال الإنسية المشتهية والأليمة والثائرة، من العسير عليه التوفيق بين شيوع الشعر النزاري، من وجه، وبين إقامة الجمهور على رأيه في النساء، أي في "المرأة"، حقيقةً هذه المرة، وفي جنسها الواحد والمشترك. ولا يُخلص من هذا إلى قول نقيض للقول السابق، أي إلى تكذيب الزعم النزاري في النساء العربيات ولا إلى إبطال حمل الشعر النزاري وأثره على "تحرير" النساء أو المرأة. بل يخلص منه إلى التنبيه على تعرج سبل القول، وعلى اختلاط مسالك العبارة وفعلها في الجمهور والناس. وهذا أضعف الحذر والتحوط. وقد يدعو الفراغ المستعجل من هذا إلى التساؤل عن موقع العبارة النزارية من الهوى "العربي"، أو من هوى العرب ومن أهوائهم. فما الذي يحركه قول الشاعر الدمشقي في "نفس" قرائه وسامعيه إلقاءً أو غناءً، فيقع منها من النفس موقع القبول والاستجابة؟ والإجابة افتراضية من غير شك. لذا أطنب عشرات القائلين في الرجل الراحل في الكلام على أنفسهم. فوصفوا الوجوه التي انتهوا منها إلى شاعرهم وشعره، والآثار التي خلفتها أشعاره فيهم، محبين ومتيَّمين ورجالاً ذكوراً وعرباً وأهل أوطان وشعراءً يَحْبون ويهمون بقول الشعر. وقد يوضع السؤال على عبارتنا: "علمتني أبجدية الياسمين"، فيتهكن الجوابُ في علة أو علل تناقلِها والقبولِ بها على النحو "الجمهوري" أو التلفزيوني المتقدم. فالجملة تجمع، على غير توقع مفترض، العلم وبعضَ مفرداته الأولى والقديمة إلى بَكارة الطبيعة، لوناً وضَوْعاً وزمناً وشهوة. فإذا اتفق العلم والأبجدية، وارتقت الأبجدية إلى مرتبة الأوائل والمفاتيح، على ما تدعو الحروف العربية حروف القراءات القرآنية وحروف حساب الجُمَّل إلى الظن، بدا حمل الأبجدية وعلمها على الياسمين، الأول والبكر وما لا علم به لأنه ابتداء العلم - بدا هذا الحمل خروجاً جريئاً على مألوف القول والفهم. لكن الخروج هذا على المألوف لم يبدُ لا خَرَقاً ولا شططاً. فهو يُعقل من وجه أول هو العلم بالأبجدية. فإذا وضع العلم على ما لا علم به، ولا يجوز وضع العلم عليه، وهو الياسمين، جوَّزت الأبجدية، وهي والأوائل والأسرار واحد، مثل هذا الوصل، وإن على وجه آخر غير الوجه الأول. وقام الترجح بين الوجهين، والتنقل من واحدهما إلى الآخر، مقام الكشف. وتلذذ المترجح والمتنقل بانتهاكه استواء العبارة على مشهورها المشترك والذائع، وبتحصيله مشهوراً مشتركاً وذائعاً جديداً من أيسر سبيل وأسهله. فإذا لم يغفل القارئ، وهو سامع، عن أن مصدر العلم هو دمشق، المدينة القديمة والمتصلة قِدَماً بالأرض والزرع والغوطة" وهو، أي المصدر، دمشق - الأم، العامة أو العمومية لكل أبنائها، والخاصة الموقوفة على ولدها الأثير ومغنيها ومنشد اسمها" وهو علم بمبتدأ اللون والرائحة والذوق والتمتع بالجسم من داخل - ائتلفت من هذا أمومة أو مصدرية، بحسب المتحذلق إياه تترجح بدورها بين أطراف اشتباه أو شبهة: طرف الولادة وطرف الاشتهاء، طرف السوية وطرف الانتهاك، سِمْت التعليم وهيئة الغواية والمجون. لكن الكناية عن الشبهة والإيحاء بها هما من الضعف، أو الخفاء والإلماح، على قدر يحفظ على السامع سكينته وطمأنينته، فلا يكاد الكدر يعروهما حتى يتبدد ويخلف محله ما لا يخجل واحد، وواحدة، بالإقرار به. قد لا تقوم الجملة "علمتني دمشق أبجدية الياسمين" محل أشعار نزار قباني. ولا تزعم العجالة لها هذه المنزلة. إلا أن الجملة تحذو على مثال كثير الشيوع والتواتر في معظم شعر الرجل. فهو يتعمد إقحام عربية أدبية ومشهورة، أو كانت إلى وقت قريب مشهورة وذائعة في المتأدبين والأدباء، وإقحام معانيها وكناياتها التي لا تقل عنها أدباً وشهرة، على كلمات ومعانٍ محدثة الاستعمال والرواج وطارئة عليهما، أو طرأت في غضون العقدين الخامس والسادس. فزاوج قباني، أي زوَّج، دمشق العربية الوجه واليد واللسان، والرافلة في عروبتها ولو على شاكلة القطعة الأثرية في المتحف، زاوجها وبعضَ أشياء الحداثة ونتفها وشذراتها المتناثرة. وربما كانت بيروت، وكان "عشقها" ونظم الشعر فيها وبكاؤها، أي ربما كان معنى بيروت النزاري، من ثمرات الزواج والإقحام هذين. فهو معنى يأتلف، بدوره، من عروبة أصيلة مفترضة ومن أسماء تدل على المحدثات ومسمياتها. فكانت أشعار الشاعر، الديبلوماسي السوري في مبتدأ عمره، معرض الأسماء الفرنسية والاسبانية والإيطالية واليهودية، نساءً وأماكن، ومعرض الكلمات التي تسمي الثياب ومواضع الجسد ومقامات الصوت الموسيقية. وأدخل قباني أسماءه وكلماته، الجديدة بعض الجدة، في سياقة جمل وعبارات عربية مشهورة، قوية الإيحاء والرجع. وعَقَد للجمل والعبارات على الأسماء والكلمات عقداً أوكل إليه توليد الشعر، وأسلم إليه أمره. فنصب جانين، من سان جرمان دي بريه وأحد كهوفها، التابو، أميرة، وجعل بنطالها خيمة أولدها المساء والنجوم، وألبسها التول والحرير والساتان وملأ جواربها بالطَّلّ الندى، لمن أنسيَ، وأباح لها تطويقه بساقية من النهوند، وأجرى ألوان أثوابها في تفكيره جري البيادر في ذهن العصافير، وعلق على صدرها المعتز صليباً، ونحر الألم على صدرها هذا، ولوَّن أعطياتها وجعل الواحدة منها دنيا من نور، وأغدق العطر عليها ومنه "سوار دي باري"، وطوقها بالياسمين والدفلى والبنفسج، وأضحكها فسيَّلت الليلَ موسيقى، وأرقصها على أنغام الجاز. ولم ينسَ الشاعر الدمشقي رفع مئذنة من هنا، ونصب قصر، دمشقي أو أندلسي، من هناك، ووسَّط القصر نافورة أو فسقية، وأقام الفرسان، وهو معاصر الهزيع الأخير من بدوي الجبل، على الثنايا من السهول والمفترقات من الطرق. ومد هامات الشَّرَف وظلال العار السوداء، ومدح بالسيف وصهوات الخيل الجياد وهجا بالإرتماء على النحور والنهود... فكان شعره السياسي، إذا جازت العبارة، طباقاً بين هذه الأضداد، أو ما حسبه، وجمهوره معه، أضداداً. فاحتذى على غزله، إذا صدق أن الغزل ما زال غزلاً. واحتذى الإثنان على محاولة تهجين وتوليد مترددة، عينٌ لها على دمشق والأخرى على بيروت، وهذه عِوَضٌ عن غيرٍ ضائعٍ. ورجع نزار قباني إلى خِيرة "كاثوليكية"، وهو حَسِبَ نفسه "وجودياً": فالمرأة المدينة، الأرض، الوطن إما أمٌّ وإما عاهرة. وهذه خيرة في أمر النفس موصدة تحول دون المرء وإدراك رشده ورغبته، وتحول دونه ودون صوغه لغة رشده ولغة رغبته.