كتب ديغول في مذكراته: "ثمة على الضفة المقابلة لتأمين البحر المتوسط اقطار في طور النمو غير ان لدى تلك الاقطار حضارة عريقة، وتسود بين الافراد فيها علاقات وقيم انسانية متميزة غالباً ما نفتقدها في مجتمعاتنا الصناعية، وسنكون سعداء لو أنها انتشرت بيننا في يوم ما... اننا جميعاً، هم ونحن، في خضم الثورة الصناعية. بيد أننا اذا تطلعنا الى بناء حضارة صناعية في منطقة البحر المتوسط لا تلتزم النموذج الاميركي بالضرورة، ويكون الانسان فيها غاية لا وسيلة، فعلينا ان نبذل الجهد من أجل تحقيق انفتاح أكبر بين حضاراتنا".في مثل هذا الموقف من ديغول بدت للعرب بارقة أمل تبشر ببداية رؤية اوروبية جديدة للعلاقات الاوروبية - العربية، بعد قرون لم نلمس خلالها من الاوروبيين غير مسلك الاستعلاء، وتجاهل القيم الحضارية الايجابية عندنا، والنظر الى اقطارنا باعتبارها مجرد اسواق يأتون منها بالمواد الخام، ثم تصرف فيها منتجاتهم، أو مجرد معبر جغرافي الى آسيا أو افريقيا، أو مزار سياحي للتفرج على الآثار، أو مجال للتوسع الامبريالي من اجل ضمان التفوق العسكري والاقتصادي على دول منافسة في القارة الاوروبية. وآثر كثيرون من المثقفين العرب ان يروا ان ديغول في قولته تلك لا يعبر عن عقيدته الشخصية وحدها، او عن سياسة جديدة لفرنسا وحدها، وإنما ارتأوها تمثل اتجاهاً صاعداً في عدد من الاقطار الاوروبية المهمة. كما ابى هؤلاء المثقفون، عن حسن ظن حميد أو غير حميد، أن يصفوا تلك المقولة بأنها مجرد مفردات جديدة تخفي وراءها الدوافع القديمة نفسها الى الهيمنة وتوسيع دائرة النفوذ. وإنما ذهبوا الى ضرورة التجاوب مع النية الطيبة، ومصافحة اليد الممدودة اليهم، مؤكدين أن ثمة أكثر من حافز يدعو الى تنمية الابعاد السياسية والثقافية والاقتصادية والأمنية في العلاقات العربية - الاوروبية، كالجيرة وقرب الموقع الجغرافي، وقدم الصلات التاريخية بيننا، والخبرة الطويلة الوثيقة المستقاة من هذه الصلات، ثم ذلك العنصر الجديد الذي طرأ على الوضع، ألا وهو التحول من التعامل مع دول اوروبية فرادى الى التعامل مع مجموعة أو كتلة من الدول تتميز بالتجانس وبقدر كبير من الوحدة. كان الامل يحدو كثيرين منا ولا يزال يحدو البعض في أن تتمكن أوروبا عن قريب من ان تلعب إزاء مشاكل منطقتنا - خصوصاً المشكلة الفلسطينية - دوراً مستقلاً منافساً لدور الولاياتالمتحدة، لجهة أنه بدرت منها بوادر عدة توحي بحيدتها، وتبشر بعدالة مواقفها. وكنا استفدنا من اخطاء الماضي ودروسه فعقدنا العزم على ألا يكون تعاملنا مع المجموعة الاوروبية على غرار تعاملنا السابق الساذج مع الكتلتين الشرقية والغربية، فهجرنا السياسة الانتهازية القديمة التي توهمنا إمكان الاستفادة منها في ضوء العداوة والمنافسة بين الكتلتين، وصرنا الى تطلع الى امكان تحقيق توازن حميد ومرغوب فيه بين موقفين مختلفين. غير أن الأكثر حذراً وأقل تفاؤلاً ذهبوا الى ان استثمار البعد السياسي في العلاقات العربية - الاوروبية يتوقف على مدى قوة واستقلالية الاتحاد الاوروبي، ومكانة اوروبا وموقعها في النظام العالمي الجديد. وهما ما سيدفعاننا الى مراجعة مواقفنا منها من وقت الى آخر في ضوء ما يطرأ من تغيير، والى تصور وبلورة سيناريوات متعددة، ويتساءل هؤلاء: أبوسع الاتحاد الاوروبي في يوم ما ان يقف من الولاياتالمتحدة موقف الند للند كما كان يأمل ديغول؟ أم أن اوروبا ستظل دائماً مجرد امتداد للولايات المتحدة على الجانب الشرقي من الأطلسي؟ فإن كانت مجرد امتداد، ومجرد "صوت سيده" أفليس من الافضل بدلا من ربط آمالنا بطرف جديد، ان نسير مع الولاياتالمتحدة "حتى باب القرار" كما يقولون، وحتى ترى الكافة كذب وعودها وزيف ادعائها الحيدة والرغبة في ايجاد حلول عادلة؟ ثمة من يعتقد ان لأوروبا فعلاً مواقف سياسية ازاء الشرق الاوسط واضحة الاستقلال من الولاياتالمتحدة، بل انها تسعى الى مزاحمة الاخيرة في رعاية عملية السلام، والى خلق آليات اوروبية لمراقبة التطورات الخاصة بالقدس والمستوطنات واللاجئين والمياه الى آخره. وهم في الوقت نفسه يدركون ضرورة إنصاف اوروبا متى بدر منها ما يوحي بتبعيتها للولايات المتحدة وما يثير خيبة الأمل في استقلالية دورها. فالمعني بتعزيز بناء الاتحاد الاوروبي لا ينفي ان تكون داخل هذا الاتحاد نفسه اتجاهات متباينة، كانت الازمة اليوغوسلافية من ابرز الدلائل عليها. وثمة من المشاكل الداخلية في اوروبا كالبطالة والهجرة وتفشي تعاطي المخدرات وتزايد قوة اليمين المتطرف، الى آخره ما يصرف احياناً جل أو كل انتباهها عن المشاكل خارج قارتها ما لا يمثل تهديداً مباشراً وعاجلاً لها ولمصالحها. وهناك النفوذ الصهيوني في وسائل الاعلام، وقوة اللوبي الموالي لإسرائيل في البرلمان الاوروبي ما يحول فيه دون التغيير عن ضرورة ممارسة الضغط على الحكومة الاسرائيلية من اجل مواصلة عملية السلام. وثمة طابور خامس نشط يعمل بهمّة من اجل احباط اية محاولة اوروبية لانتهاج نهج مستقل عن الولاياتالمتحدة، ومن اجل زرع الفرقة في مواقف الدول الاعضاء في الاتحاد الاوروبي من قضية السلام في الشرق الاوسط، حتى بتنا نرى فرنسا وايطاليا وايرلندا شديدة الرغبة في ان يلعب الاتحاد دوراً سياسياً انشط، في حين تنظر المانيا وبريطانيا وهولندا بعين الفتور والنفور الى مثل هذا الدور. كل هذا وغيره يفسر تواضع الدور الاوروبي في عملية السلام حتى الآن، كما يفسر تذبذب المواقف الاوروبية من قضايا الشرق الاوسط ومن غيرها. فالمعروف مثلاً ان السياسة الفرنسية منذ ديغول تمثل السقف، أو أقصى نقطة يمكن ان تبلغها السياسة الاوروبية في محاولتها لفظ الوصاية الاميركية. ومع ذلك، ورغم ان زيارة شيراك الاخيرة للشرق الاوسط حققت لفرنسا اكبر شعبية حققتها في تاريخها كله لدى الاقطار العربية، وكان في وسعها لو شاءت ان تستثمر هذه الشعبية لمصلحتها ومصلحة الاتحاد الاوروبي كله، فإننا سرعان ما تبينا في مواقفها التالية من القضايا العربية بوادر الاذعان للإرادة الصهيونية - الاميركية، وكانت محاكمة روجيه غارودي رغم انه لم يكن لشيراك أو الحكومة دخل فيها مجرد مظهر واحد لهذا الإذعان. ولسنا في حاجة الى الإطالة فنذكر التراجع الفرنسي عن الاصرار على اقتراح إيفاد لجنة اوروبية للتحقيق في المسؤولية عن المذابح التي ترتكب في الجزائر، أو نذكر الاتفاق هاتفياً بين كلينتون وشيراك على التنسيق بين السياستين الاميركية والفرنسية في القارة الافريقية، تلك القارة التي باتت تشهد يومياً انحساراً للنفوذ الفرنسي في اقطارها لمصلحة النفوذ الاميركي. ما ينطبق على فرنسا ينطبق على الاتحاد الاوروبي ككل. وبصورة اكثر صراحة. لقد جاء إعلان برشلونة الخاص بمشروع الشراكة الاوروبية - المتوسطية في تشرين الثاني نوفمبر 1995 كبير التعاطف مع القضايا العربية، شديد التأييد لمبدأ الارض في مقابل السلام. لكن هذا الموقف جاء بالتوافق مع تسارع حركة قضية السلام، وتعاقب اعتراف عدد من الاقطار العربية بإسرائىل وإقامة العلاقات معها، وتقبُّل كل من حكومة حزب العمل الاسرائيلية ومعظم الحكومات العربية لفكرة التوصل الى سلام دائم. ولكن ماذا حدث بعد تولي حكومة ليكود السلطة في اسرائيل ووضوح مدى تعنت سياسة نتانياهو؟ حدث ان انعقد مؤتمر فاليتا في مالطا في نيسان ابريل 1997 لمتابعة إعلان برشلونة، فانفض المؤتمرون من ممثلي الاتحاد الاوروبي واقطار الساحلين الشرقي والجنوبي للبحر المتوسط بعد يومين فقط من بدء المؤتمر من دون الوصول إلى أي نتائج أو الاشارة الى أي توصيات خاصة بالمستقبل. ولمَ؟ لمجرد احساس الاتحاد الاوروبي بأن اسرائيل فقدت اهتمامها بمسيرة السلام. غير اننا، مرة اخرى، نحاول ان نلتزم الإنصاف. فحديث العرب يدور دائماً في نطاق ما يتوقعونه من اوروبا من دون ان يلقوا بالاً للتساؤل حول ما عسى ان تكون اوروبا تتوقعه منهم، وما عساه ان يحدوها الى تنمية البعد السياسي لعلاقاتها معهم. جملة واحدة كافية للاجابة عن هذا التساؤل، هي انه ما من شيء سيحدوها الى تنمية هذا البعد إلا ان اثبتت الدول العربية ان لها من الوزن والتأثير في مجريات الامور ما لا يمكن للاتحاد الاوروبي ان يتجاهله أو يغفل عنه، وما لا يمكن معه ان يفضل الاتحاد الاوروبي ان تكون اسرائيل او تركيا حجر الزاوية في علاقاته بالمنطقة، وما يعيد الى الاذهان ما نصّ عليه اعلان هلسنكي للعام 1975 من ان الأمن الاوروبي بمفهومه الواسع وثيق الارتباط بأمن منطقة البحر المتوسط. وسيكون على الدول العربية من اجل تحقيق ذلك، التنبّه الى ضرورة دعم الاستقرار السياسي فيها، واستئصال خطر الارهاب وجماعات الاسلام السياسي المتطرفة، ومساعدة الاتحاد الاوروبي على ادراك حقيقة الخطر الاسرائيلي عليه، ومعاداة اسرائيل الكامنة للوحدة الاوروبية بسبب ارتباط سياستها بالسياسة الاميركية واستغلالها للولاء اليهودي المزدوج في اوروبا، وسيطرتها على الحياة الثقافية وعلى الإعلام فيها.