تُذكٍّر المحاولات الجارية للبحث عن مخرج من الأزمة الحالية التي تواجهها عملية السلام وذلك من خلال توجيه الاهتمام لإعادة الثقة بين اسرائيل والسلطة الفلسطينية باعتبار ان الأزمة هي أزمة ثقة أساساً، بالمثل الصيني الشائع الذي يقول "من الصعب جدا البحث عن قطة سوداء في غرفة مظلمة عندما لا تكون هنالك اساسا". فعملية السلام لا تعاني من أزمة ثقة - كما تقول الولاياتالمتحدة - خصوصاً ومعها بعض الأطراف الاوروبية والدولية الأخرى، ويؤسسون على ذلك لبلورة توجه يهدف الى تجسير الفجوة بين الطرفين من خلال الدفع لتقديم تنازلات متبادلة وغير متوازنة بالطبع، عبر اتخاذ مواقف وانتهاج سلوكيات معينة. فشهادة حُسن السلوك الأمني المطلوب أن تقدمها السلطة الفلسطينية حسب تعريف اسرائيلي مطاط ومفتوح ومطلق، تهدف الى إثارة الغبار ووضع العصي في الدواليب. فالعمل على هذا الخط الفلسطيني مقابل العمل على ديبلوماسية النسب المئوية "لاعادة الانتشار" الاسرائيلي لن تؤدي الي المخرج المرجو لإحياء عملية السلام. فالأزمة الحالية أعمق وأشمل وأبعد بكثير من ذلك، وأزمة الثقة هي إحدى أوجهها البسيطة وسببها اسرائيل التي ترفض احترام تعهداتها، والأزمة مردها تناقض مفاهيم السلام بين العرب واسرائيل. فالعرب مازالوا متمسكين بمفهوم محدد للسلام قوامه مرجعية مدريد على الأصعدة السياسية والقانونية والاستتراتيجية كافة، بالإضافة الى اوسلو بالنسبة الى الفلسطينيين.، فشرط التسوية، حسب مدريد، هو الاعتراف بالآخر وحقه في الوجود، والتسوية تقوم على إحداث توازن بين الحد الأدنى المقبول من المصالح المشروعة الحيوية لكل من طرفي الصراع على حساب أهدافهما ومتطلباتهما المطلقة. يقابل ذلك مفهوم اسرائيلي مناقض كلياً لمدريد ولأوسلو ويعتبرهما بمثابة تكبيل له. فالسلام لا يقوم على الاعتراف بالحق "القومي" للآخر ولا على تسوية سياسية تاريخية مقننة بالضرورة. إنما مفهوم السلام الاسرائيلي قوامه الحفاظ على أقصى الأهداف والمطالب الحيوية، على قاعدة ميزان قوي يحرم الآخر من تهديد هذه الأهداف ويوفر بالتالي الأمن المطلق لإسرائيل. فالردع بواسطة ما يعرف باستراتيجية الحرمان DENIAL STRATEGY لمنع الطرف الآخر من تهديد الوضع القائم يوفر السلام المطلوب لاسرائيل على الجهات كافة. إن هذا المفهوم للسلام لا ينطلق من منطلق التساوي الأخلاقي بين طرفي الصراع، بل يقوم على مبدأ التميز عن الآخر. يعزز ذلك واقع التفوق المادي العسكري خصوصاً، وايديولوجية تقول بالتفوق القيمي على الآخر. فإسرائيل، إذن قوة عظمى إقليمية قائمة في ارض الميعاد، فكل من التفوقين يسمح بتعزيز الآخر أو يغري بتعزيزه. * وصلنا الى هذا الوضع نظراً لعناصر أربعة متكاملة: - سياسة الإغراق في التفاصيل والتصلب في الجزئيات على المسار الفلسطيني، التي مارستها اسرائيل لتفتيت المسائل الرئيسية وتشويهها بشكل تدريجي يسهل الخروج من عملية السلام وإضاعة بوصلتها واستنزاف مرجعيتها. - اتباع نمط معين في تقنيات التفاوض قوامه دفع الفلسطينيين إلى القبول فعلاً بأفكار تمثل تنازلات أساسية بالنسبة إليهم كبديل عن ارساء حال الجمود التي يدفع ثمنها الفلسطينيون في ظل الاوضاع الراهنة. كل ذلك مقابل استمرار الرفض الاسرائيلي لهذه الافكار. ومع الوقت يصبح التنازل الفلسطيني بمثابة معطى، ويبدأ البحث عن حل وسط آخر بين هذا الموقف والموقف الاسرائيلي، ويصبح التنازل مطلوبا من الفلسطينيين مرة أخرى. ويهدف هذا النمط في التفاوض القائم على التصلب في المضمون والحفاظ على بعض الالتباس الواعد في الشكل الى جذب الطرف الآخر الى تقديم تنازلات متكررة بشكل تدريجي. وتمثل ديبلوماسية النسب المئوية حاليا مثالاً ساطعاً على ذلك. تمييع المسؤوليات من خلال ديبلوماسية الالتباس التي تدعو الى التوفيقية والتنازلات المتبادلة من دون تحديد الطرف المسبب للأزمة فتجري عملية خلط الاوراق مجدداً، وهو ما شجع، بشكل غير مباشر، على عدم احترام الالتزامات مادام لا يلجأ الوسيط أو المسهل الى بلورة معايير تُقاس على أساسها عملية إحترام أو خرق التعهدات والالتزامات. - اللعب على عامل الوقت إسرائيلياً من دون ممانعة اميركية وعامل الوقت اثبت انه حليف موضوعي لسياسة فرض الأمر الواقع وعدو طبيعي لعملية السلام حسب أجندة مدريد. أدى ذلك الى وضع يمكن وصفه، اذا أردنا استعمال لغة متفائلة، بتعليق العمل كلياً بمدريد وأوسلو حتى إشعار آخر، بحيث صارت الإشارة اليهما من باب اللياقات الديبلوماسية. ما العمل عربياً؟.. في تقديري هنالك بعض الاسئلة التي لا بد من مواجهتها في وقفة مع الذات لتقويم مستقبل السلام في المنطقة. اولاً: ألم تنته مفاوضات السلام عملياً على المسار الفلسطيني مع اتفاق الخليل من المنظور الاسرائيلي وبقي فقط بعض الإضافات التي هي بمثابة عملية تجميلية قوامها "التخلي" عن حوالي 9 في المئة كلياً من اراضي تمثل استكمالاً للتخلي عن العبء السكاني الفلسطيني. يضاف الى ذلك تخل وظيفي FUNCTIONAL وليس ترابياً TERRITORIAL عن حوالي 3 الى 4 في المئة من الاراضي تتقاسم المسؤوليات عليها اسرائيل، والسلطة الفلسطينية من دون ان تتخلى الاولى عن سيادتها الأمنية أو الوطنية على هذه الاراضي. فمفاوضات الحل النهائي أو المسار السريع FAST TRACK كما يحلو لنتانياهو ان يسميها تهدف إلى استكمال هذا الملف في حالته القائمة بغية إغلاقه وليس لفتح ملفات القدس والمستوطنات والحدود واللاجئين. ثانياً، هل من مخاطر تهدد فعلاً المصالح الاميركية تستدعي التدخل المباشر، حسب التوصيف العربي لهذا التدخل. وفي السياق ذاته نتساءل: لماذا تصطدم الادارة الاميركية باسرائيل مع مخاطر ذلك عشية انتخابات لمجلس الشيوخ والنواب؟ فهل الوضع القائم غير محتمل بالنسبة إلى واشنطن لتتدخل؟، والكل يعرف من تاريخ الصراع العربي - الاسرائيلي ان التدخل الرئاسي الاميركي القوي المباشر هو شرط ضروري لبلورة الدور الاميركي الفاعل، ثالثاً، رغم كل ما هو معروف حول أوراق أوروبية يمكن إعمالها لدفع اسرائيل الى العودة الى المفاوضات، فهل هنالك ظروف ضاغطة تهدد مصالح اوروبا، وبالتالي توحد موقفها وتفرض عليها الانتقال من سياسة المواقف الى سياسة عملية ضاغطة على اسرائيل قد تؤدي الى ارباكات في اوروبا واصطدام غير مستبعد مع واشنطن. رابعاً، هل العرب في معركة اعلامية امام الرأي العام العالمي فقط؟، لنكتفي بتأكيد ان السلام خيار استراتيجي عربي من دون العمل على توفير الشروط الضرورية لترجمة هذا الخيار الى واقع، خامساً، هل من الجائز الاستمرار في ديبلوماسية المناشدة بانتظار الدور الأميركي المطلوب والدور الاوروبي الموعود مادام الوضع القائم الذي تعززه اسرائيل كل يوم لا يشكل عامل ضغط على مصالح الغير. فلماذا ننتظر ان يقوم هذا الغير بقدرة قادر بالعمل على تغيير مسار الوضع القائم. العرب اليوم، على مفترق طرق بين مشهدين مختلفين. مشهد التواصل، حيث يستمر صراع المفاهيم المتناقضة في التحكم بعملية السلام ويبقى حوار الطرشان عنوان المفاوضات غير الرسمية سواء سُميت محادثات أو استكشاف نيات ويتكرس تحول الدور الاميركي من ادارة عملية السلام، وتحديداً دينامية المفاوضات، الى ادارة حالة اللا حرب واللا سلم، تقوم في إطارها اسرائيل بحروبها الصغيرة المختلفة، فيما يكرر العرب الصراع كما كان حاصلاً قبل عام 1991، وهذا ما يسهل الدور الاميركي ويسمح له باستيعاب وتقييد التوترات التي قد تبرز بين الحين والآخر. المشهد الثاني، قوامه بلورة صيغة تنسيق عربية مرنة، اذا كان من الصعب تخطي العوائق المعروفة حاليا بغية التحرك في سياسة ذات اهداف عملية ومحددة نحو عواصم القرار الاساسية، وفي إطار الاممالمتحدة للدفع على إعادة تأكيد مرجعية السلام في عناصرها كافة، ولاستحداث آلية دولية لمتابعة ومراقبة مدى التزام الأطراف المعنية في سلوكياتها التفاوضية بهذه المرجعية واحترامها لروح ونص الاتفاقات القائمة. ومن المهم جدا العمل على دفع عواصم القرار الدولية الفاعلة على بلورة إعلان يتضمن تأكيد هذه المرجعية وأهمية تفعليها، كما تم "التعاقد" حولها في مدريد من جهة وعلى الأهداف النهائية لعملية المفاوضات، ما يعطيها توجهاً واضحاً ومتوازناً، من دون ذلك ستبقى عملية السلام بمثابة سفينة تائهة تحدد وجهتها وسرعتها الرياح الإسرائيلية العاتية.