أبقى اليوم مع نزار قباني. في 21 تموز يوليو 1995 نشرت "الحياة" كلمة قدم بها نزار قباني لمجموعة قصائد ألقاها في برلين بدعوة من بيت الثقافة العالمي. وقال نزار في كلمته "يسعدني ان تكون برلين واحدة من المحطات الكبرى على خارطتي الشعرية، فاسم المانيا كان دائماً لجيل الأربعينات الذي أنتمى اليه، اسماً جميل الرنين، ومثيراً للمخيلة والحلم، لما يوحي من تداعيات القوة والفروسية، والزهو القومي". وأضاف: "وتمر الآن ببالي صور من الحرب العالمية الثانية، حيث كان أبي ألماني الهوى، لا يستمع إلا لإذاعة برلين، ولا يصدق إلا أخبارها...". ولم تمض أيام حتى كانت ابنة أخيه الكاتبة رنا قباني ترد في "الحياة" نفسها على عمها فتقول: "نعاني نحن العرب من أوهام خطيرة، ربما كان بين أخطرها توهم ان عدو عدونا هو صديقنا". وتضيف: "وتعكس تعليقات الشاعر نزار قباني المنشورة أخيراً في الصفحة الثقافية من صحيفتكم هذا التوجه المؤسف، ويأتي إعجابه بكل ما هو ألماني كصدمة...". ورد قراء بعد ذلك على رنا قباني منتصرين لعمها الشاعر، وهم رأوا انها حمّلتْ كلماته ما لا تحتمل من تأويل. طبعاً لو قال نزار قباني كلاماً مختلفاً لكان يكذب، فقد كان ذلك شعور أبيه وكل العرب في الاربعينات، فقد كان الانتصار للألمان مجرد عداء لبريطانيا وفرنسا، ثم ان محرقة اليهود بدأت في آخر سنوات الحرب، ولم تعرف إلا بعد فوات الأوان. والأرجح ان رنا قباني لم ترد لعمّها ان يكذب، بل ان يصمت، ان كان يرفض ان يهاجم شرور النازية. أزيد الى هذا الجدل معلومة أنشرها للمرة الأولى، فقد اتصل بي نزار قباني ذات صباح من أيار مايو 1996، ودعاني لشرب فنجان للقهوة معه، وأنا في طريقي الى المكتب، وهو كان يدعوني عادة ليسلمني إحدى قصائده الجديدة. وقرأ لي نزار قصيدته "راشيل وأخواتها" التي نشرتها "الحياة" بعد أيام، وراجعت الموضوع معه كالعادة، فقد كان عن مجزرة قانا الرهيبة. ووجدت أمامي هذا المقطع: هتلر هجّرهم من شرق أوروبا وهم من أرضنا قد هجرونا هتلر يرحمه الرحمن لم يمحقهم ويريح الأرض منهم فأتوا من بعده كي يمحقونا. واقترحت عليه ان يقول "هتلر يلعنه الرحمن لم يمحقهم" لأنه لا يجوز ان نترحم على هتلر مع ما ارتكب من جرائم. وقال نزار قباني: "أنا لا ألعن هتلر في شعري"، وقلت له: "وأنا لا أترحم عليه في جريدة أرأس تحريرها". وتفاوضنا طويلاً واتفقنا في النهاية على ان يكتب "هتلر بالأمس لم يمحقهم". إلا انه في اليوم التالي اتصل بي محتجاً انه لا يقبل قصيدة منه بكلماتي، ونُشر البيت على ما أذكر على الشكل التالي: هتلر لم يجد الوقت لكي يمحقهم. ولا أزال حتى اليوم احتفظ بالنص الأصلي للقصيدة بخطي وعليه عبارة "يرحمه الرحمن" مشطوبة، وكلمة "بالأمس" في محلها، مع ان البيت المنشور جاء غير هذا وذاك. وبما أنني لا أزال احتفظ بالنسخة الأصلية لتلك القصيدة، فربما كانت فيها اضافات تنير طريق الباحث. هو قال في مقطع آخر من قصيدته: دخلوا قانا كأفواج ذئاب جائعة يشعلون النار في بيت المسيح ويدوسون على رأس الحسين وعلى أرض الجنوب الغالية وقلت لنزار ان "رأس الحسين" هذه قوية، فللإمام الحسين مكانته العالية عند المسلمين جميعاً، خصوصاً الشيعة. ورد انه يعرف هذا ويريد استثارة الناس، إلا انني نصحته بتغيير الكلمة، وانتهينا باستبدال "ثوب" بپ"رأس" ونُشر البيت "ويدوسون على ثوب الحسين"، مع احتفاظي بالنص الأصلي. قرب نهاية القصيدة قال نزار قباني: كيف اسرائيل لا تذبحنا؟ كيف لا تلغي هشاماً وزياداً والرشيدا؟ وبنو تغلب مشغولون في نسوانهم وبنو مازن مشغولون في غلمانهم وبنو هاشم يرمون السراويل على أقدامها... وقلت لنزار ان بني هاشم آل البيت، ولا يجوز له ان يقول مثل هذا الكلام، ومرة أخرى دخلنا في نقاش حاد طويل، فكلماته بناته، وهو استبدل في النهاية "عدنان" ب "هاشم" وكتبها بخط يده، مع ان بني هاشم من عدنان. وعلى الأقل فالتعميم أهون من التخصيص. وأكمل غداً.