لو كنت أعرف أنها ستكون زيارة الوداع لأطلتُ البقاء عنده. لأطلتُ التأمل في العملاق الذي يرفض الإعتراف بأقزام المرض والوحشة والسنين.. لأطلتُ التأمّل في العينين اللتين ظلتا صافيتين صفاء النور في عينين اندلسيتين.. كان يجب أن أعرف أنها زيارة الوداع. لأنه قال لي بنفسه أنه يموت. لا! لم يقلها بطريقة نثرية مباشرة قالها بطريقته الفريدة: "أنا لا أعيش إلا عندما أكتب شعراً وأنا الآن لا أكتب شعراً أنا الآن لا أعيش". قلت: "ولكنك كتبت ما يكفي هذا الجيل وهذا القرن والتاريخ". تنهّد، وقال: "انت محظوظ أنت تكتب أشياء غير الشعر. أنت تتنفس بأكثر من رئة. أمّا أنا فلا أعرف إلا الشعر. أنا أفضل الموت على حياة لا أكتب فيها شعراً". قمت... وسار معي يودّعني. سار على عكازتين. دون شعور، صرخت به: "ارم عكازتيك!!".. انتفض كمن مسّه تيار كهربائي صاعق ونظر إليّ وابتسم. وبدأت أقرأ قصيدته عن طه حسين: "ضوء عينيك أم حديث المرايا أم هما طائران يحترقانِ إرم نظارتيكْ.. ما أنت أعمى إنما نحن جوقة العميان". استمع نزار إليّ أقرأ شعره وصغر، أمامي، خمسين سنة ورمى عكازتيه!! مات نزار؟! الشعراء لا يموتون ولكنهم يدخلون دواوينهم حيث يتحولون إلى قلوب تنبض إلى الأبد وإلى ورود يبقى عبيرها حتى نهاية الزمان وإلى خيول تصهل إلى يوم القيامة. ونزار.. أفاق ذات فجر ربيعي وأخذ أوراقه الملونة. ودخل ديوانه وترك أشياءه لنا... كلّ أشيائه. نتجوّل في أشياء نزار الجميلة. نتدلىّ من ذروة النهد الأسمر الطفل. نهمس للسمراء، نقول لها وتقول لنا. نضحك مع فساتين التفتا التي تضحك. نرسم بالكلمات. نتأمل السيف الدمشقي بإعجاب. نتغزل في الفلّ الدمشقيّ. وننعطف بلا سابق انذار. وندخل هوامش النكسة. ونبكي... ونغضب. أخذ نزار أوراقه الملوّنة. وأقلامه الملوّنة. ودخل ديوانه. وترك رفاً مليئاً بالدواوين في كل بيت عربي. وخلف قصيدة حب على ضفائر كل سمراء عربية. دخل ديوانه. وترك الشوارع تحمل أسماء الشعراء. والمدن تتسمّى بأسماء الشعراء. ترك الشعراء. أغنى من أصحاب البلايين. وأشهر من نجوم الماتينييه. وأقوى من كل الزعماء. أخذ نزار أوراقه الملوّنة. وأقلامه الملوّنة. ودخل ديوانه. لا تصدقوا من قال لكم انه مات. تعالوا معي تعالوا معي ادخلوا ديوانه... معي وانظروا إليه: نزار ما زال يسقي الفلّة الدمشقية. نزار ما زال يغتسل في العيون الاندلسية. نزار ما زال يجلس على طاولته. ويكتب شعراً ويكتب شعراً ويكتب شعراً. لندن - نيسان ابريل 199