عرض الفنان العراقي قتيبة الجنابي أخيراً في لندن أربعة من أعماله السينمائية القصيرة. وجسدت الأعمال طموحه في التعبير السينمائي عن وطأة الغربة والشعور بالمطاردة والقهر، واختار لتجسيد هذه الرؤية نماذج للاجئين يضطرهم نظام الحكم في وطنهم الى العيش في بلد آخر، ونماذج للانسان المقيم في وطنه لكنه يعجز عن دفع القهر الذي تتسبب فيه آليات الحياة المعاصرة. في فيلم "حياة ساكنة" Still Life ومدته 12 دقيقة شريحة زمنية قصيرة من حياة لاجئ في بلد أوروبي، غير محدد، ربما لتأكيد شيوع حالة اللجوء والحياة الصعبة التي يعيشها اللاجئ في بلد لا يعرف لغته، ويفتقد الى من يساعده على التكيف فيه. ولقد حرص على جمع عناصر مشاهد الفيلم المتتابعة بعناية، الاعتماد على عناصر الطبيعة المحيطة، الضوء والظلال، الحجرة الضيقة في فندق فقير صوت زخات الأمطار المتواصلة بلا انقطاع، حيرة بطل الفيلم واحساسه بالمطاردة، شكوكه في متابعة شخص له، ايقاع موسيقي رتيب يزيد من وحشة اللاجئ، محاولته لتعلم بضع كلمات تساعده في تأمين حصوله على أوراق اللجوء الرسمية. فيلم "المحطة" انتجه عام 1985 أبيض وأسود صوّر في المجر، حيث كان الفنان يعيش قبل قدومه الى بريطانيا عام 1990. عن مكان بلا معالم، محطة ينتظر فيها بعض المسافرين قطاراً ينقلهم الى غاياتهم وليس هناك ما يجمع بينهم سوى حال القلق الانسانية… لا حوار ولا كلمة وإنما التعبير بردود الفعل التي تكتسي بها الوجوه، وتعبر عنها الأجساد. انه الانتظار الانساني الدائم والممزوج باللهفة والخوف بالاحباط وبالأمل. أبطال الفيلم يشخصون عند أي بادرة توحي بقدوم القطار… تنقض اجسادهم حالة السكون ويسكنها الاستعداد لكن القطار لا يأتي… يغلبهم النوم… وتجذب الرغبة جسدي شاب وفتاة فيستجيبان لها ثم يداهمهما صوت القطار فينتفضان ويلهثان خلف القطار الذي لا يتوقف. ويواصل الشبان منهم الجري ولكنهم جميعاً لا يحققون غاياتهم ويستمرون في الانتظار. مشاهد الفيلم التي صنعت بإتقان تضافرت مع الموسيقى وقدرة الممثلين على تجسيد أدوارهم في إمتاع المشاهدين بعمل سينمائي يعكس مشاعر العجز الانساني أمام طغيان الحياة وجبروتها… وهو الاحساس الذي جسده المخرج في فيلم "ادخل الحياد" جاعلاً من المشهد بطلاً للفيلم حيث راح بكاميرته المحمولة على كتفه يصور البيوت الخالية من سكانها أو التي أصابها الهرم فآلت للسقوط بعدما كانت تعج بالحياة، أو تلك التي أصابها الزمن أو الحروب بانتكاسات أفقدتها دورها كمكان يمارس فيه الانسان حياته المبدعة المتجددة. اما فيلم "الأرض الخراب" الذي اختار الفنان عنوانه من عنوان قصيدة الشاعر ت. س. ليوت فقد جسد تجربة فنانة المسرح والسينما العراقية في زمن الستينات والسبعينات ناهدة الرماح التي انتهت بعد معاناة صحية وسياسية الى مغادرة وطنها والاقامة في بريطانيا. المشاهدون البريطانيون أعجبوا بهذا الفيلم لأنه أبرز لهم وجهاً انسانياً من وجوه الانسان العراقي المبدع الذي شوهته ممارسات النظام الحالي ودعايات الاعلام الغربي. الا اننا نرى انه كان أضعف الأفلام الأربعة فنياً حيث افتقد الى غنى المشاهد، وثبات الايقاع، وبروز النغمة التراجيدية في قصة لها مثيلات بلا حصر. وكان يمكن لهذا العمل ان يعطي تأثيراً فنياً أكبر لو توفر له سيناريو محكم لا ثرثرة فيه، واستخدام لعناصر العمل السينمائي الفنية: الاضاءة، حركة الكاميرا، الديكور وكذلك الموسيقى.