"السعودية للكهرباء" تُسوِّي جميع التزاماتها التاريخية للدولة بقيمة 5.687 مليار ريال وتحوِّلها إلى أداة مضاربة تعزِّز هيكلها الرأسمالي    لماذا تُعد الزيارات الدورية للطبيب خلال الحمل ضرورية لصحة الأم والجنين؟    تجمع حائل الصحي يحقق جوائز في ملتقى نموذج الرعاية الصحية السعودي 2025    رياح نشطة وأمطار متفرقة على بعض المناطق    انطلاق فعاليات مهرجان العسل العاشر في جازان    «سلمان للإغاثة» يدشن مشروع توزيع مواد إيوائية في باكستان    مبعوث ترامب: أمريكا تريد من أوكرانيا إجراء انتخابات بعد وقف إطلاق النار    التعليم تحدد قواعد السلوك والمواظبة للزي الوطني    إيماموف يحسم مواجهته مع أديسانيا بالضربة القاضية    إعلان المرشحين لجائزة الجمهور لأفضل محتوى رقمي    عبدالعزيز بن سعد يتوّج الراجحي بطلًا لرالي حائل تويوتا الدولي 2025    جامعة الملك عبدالعزيز تُتوج ببطولة تايكوندو الجامعات    "معرض المنتجات" بالكويت يناقش التحديات التصديرية    إنتاج العسل    وفاة صاحبة السمو الأميرة وطفاء بنت محمد آل عبدالرحمن آل سعود    البريطاني «بيدكوك» بطلًا لطواف العلا 2025    في الجولة 18 من دوري روشن.. الاتحاد يقلب الطاولة على الخلود.. والفتح يفرمل القادسية    سعد الشهري.. كلنا معك    وكالة "فيتش" : التصنيف الائتماني للمملكة عند A+    «السداسية العربي»: لا للتهجير وتقسيم غزة    خلال شهر يناير 2025.. "نزاهة" تحقق مع 396 موظفاً في 8 وزارات بتهم فساد    الأحساء صديقة للطفولة يدعم جمعية درر    موكب الشمس والصمود    «بينالي الفنون».. سلسلة غنية تبرز العطاء الفني للحضارة الإسلامية    مهرجان فنون العلا يحتفي بالإرث الغني للخط العربي    إنفاذًا لتوجيه سمو ولي العهد.. إلزام طلاب المدارس الثانوية بالزي الوطني    الأسرة في القرآن    ذكور وإناث مكة الأكثر طلبا لزيارة الأبناء    ملاجئ آمنة للرجال ضحايا العنف المنزلي    ثغرة تعيد صور WhatsApp المحذوفة    خيط تنظيف الأسنان يحمي القلب    نصيحة مجانية للفاسدين    إعلاميات ل«عكاظ»: «موسم الرياض» يصنع التاريخ ب«UFC السعودية»    "نيوم" يعلن رحيل البرازيلي "رومارينهو"    قطار الرياض وحقوق المشاة !    رحيل عالمة مختصة بالمخطوطات العربية    غالب كتبي والأهلي    عندما تتحول مقاعد الأفراح إلى «ساحة معركة» !    ضوء السينما براق    كندا تبلغت بفرض رسوم جمركية أميركية بنسبة 25% اعتبارا من الثلاثاء    من ملامح السياسة الأمريكية المتوقعة..    تفسير الأحلام والمبشرات    المؤامرة على نظرية المؤامرة.. !    أمير حائل ونائبه يعزّيان أسرة الشعيفان بوفاة والدهم    أسرتا العلواني والمبارك تتلقيان التعازي في فقيدتهما    حزين من الشتا    رحل أمير الخير والأخلاق    خالد البدر الصباح: وداعًا أمير المواقف الشجاعة    اتفاقية تعاون لتوفير بيئة علاجية لأطفال القصيم    ندوة عن تجربة المستضافين    الرويلي يفتتح المسابقة الدولية العاشرة في حفظ القرآن الكريم للعسكريين    القبض على (3) إثيوبيين في جازان لتهريبهم (54.6) كجم "حشيش"    3134 امرأة في قوائم مخالفي الأنظمة    خيرية هيلة العبودي تدعم برنامج حلقات القرآن بالشيحية    ممثل رئيس الإمارات يقدم واجب العزاء في وفاة الأمير محمد بن فهد بن عبدالعزيز    أمير الرياض يعزّي في وفاة الأميرة وطفاء بنت محمد آل عبدالرحمن آل سعود    رابطة العالم الإسلامي تعزي في ضحايا حادثة اصطدام الطائرتين في واشنطن    نيابة عن أمير قطر.. محمد آل ثاني يقدم العزاء في وفاة محمد بن فهد    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"الجيل الضائع : التغرب وإشكالاته". المستغربون العرب في بريطانيا أمس واليوم
نشر في الحياة يوم 09 - 04 - 1998

اعبر عن اعتزازي وسعادتي لأن اتحدث بحضور عرب وباحثين في قضايا الشرق الاوسط. فقد اعتدت في اللقاءات المخصصة لالقاء نصوص ادبية وخلال مقابلات في انكلترا ان اتوقع شتى انواع التشوش لدى الجمهور.
وأود ان أشكر "المجلس البريطاني" لاعطاء احد ممثلي جيل الشباب شرف القاء هذه الكلمة الرئيسية، ولو ان هذه المساهمة ستعبر ايضاً عن التقدير لذلك الجيل الاكبر سناً والريادي من المستغربين العرب، خصوصاً والدي البروفسور فريد حنانيا الذي سيحتفل السنة الجارية بعيد ميلاده التسعين وكان لحياته المهنية بوصفه اول محامٍ عربي في بريطانيا واول عربي يشغل منصب عميد الفنون والعلوم في الجامعة الاميركية في بيروت تأثير فريد ونموذجي على العلاقات الانكلو - عربية، اُمثل انا بالذات احدى نتائجه العرضية.
موضوع حديثي هو العلاقة بين الكتاب الانكلو - عرب المهاجرين من جيلي وعالم الغرب الذي تأثروا به ثقافياً وكيف اغنت هذه العلاقة اعمالهم، سواء امتازت بالاندماج او الرفض او بخلاف ذلك.
ندرك جميعاً ان صناعة واسعة، ذات طابع اكاديمي وسياسي - نظري، اصبحت قائمة الان حول موقع الاستشراق. وهذا التفحص الذاتي ما بعد البنيوي المفرط لانطباعات الثقافة الغربية واساطيرها عن الشرق واعادة اكتشافها له يستمر في سد الطريق على الدراسة التقليدية للثقافات الشرقية في كثير من الجامعات الغربية. لكن، أود اليوم ان اتناول جزئياً هذا الاختلال في التوازن عبر القيام باستكشاف متواضع في التغرب العربي واشكالاته.
كُرّس كم كبير من الابحاث، بعضها مهم والبعض الاخر من اعمال الهواة وغرائبي - تجاري، وبعضها بلا مسوغ تماماً، لاعمال وحياة تلك القافلة الطويلة من الرومانسيين والعلماء والرحالة والساعين الى المغامرة في عالم المخدرات والجنس الذين زاروا الشرق الادنى. وبين مواضيع القرن الاخير المفضلة ابحاث الاستشراق لداوتي وبرتون، ومغامرات جين ديغبي واستر استانهوب، والرحلات الكبرى لامثال دزرايلي وكينغليك. وفي القرن الحالي لا تزال اسماء لورانس وبل وفيلبي وستارك وتسيغر تجتذب المريدين والخبراء. لكن، لا يُسمع الكثير عن الرحالة العرب الى بريطانيا واولئك المستغربين العرب من الباحثين والكتاب الذين قد يتبيّن في النهاية ان التأثير الذي مارسوه على عالمهم اكثر انتشاراً وثباتاً من تأثير المستشرقين على ثقافاتهم.
وقبل ان اناقش اعمال جيلي من الانكلو - عرب، قد يكون من المفيد ان اقدم نبذة تاريخية شخصية ومتناقلة عن التجارب المحددة لهذه الاجيال السابقة من المستغربين العرب والمعجبين بانكلترا.
قبل فرض الانتداب على فلسطين والاردن كانت شبكة واسعة من المدارس التبشيرية البروتستانتية والشركات التجارية قد نشأت في انحاء الشرق الاوسط، وهاجرت بالفعل عائلات كثيرة مصرية وسورية ولبنانية الى بريطانيا، خصوصاً الى مانشستر نتيجة دور المشرق في صناعات القطن والنسيج. وربما كان الابرز بين هؤلاء المهاجرين الاوائل عائلة حوراني من مرجعيون في جنوب لبنان.
حافظت هذه الاجيال الاولى من المهاجرين على احترام مزدوج لثقافتها الاصلية والجديدة على السواء. وذكريات والدي عن زياراته الى منزل عائلة حوراني في ديدزبري قرب مانشستر خلال سنوات الحرب، عندما كان يعمل مذيعاً مع فضلو حوراني في هيئة الاذاعة البريطانية "بي بي سي"، تبيّن هذه الثنائية الثقافية. فعلى رغم الضائقة المعيشية ايام الحرب كان يُستقبل بترحاب وتُقدم له تشكيلة كاملة من الحمص والمتبل والطحينة والكبة: لم يكن تقنين الارزاق يقف عائقاً امام تقديم الزعفران والصنوبر واللوز المقشر. لكن المنزل ذاته كان نموذجاً دقيقاً للنمط الانكليزي، وكان فضلو حوراني فخوراً باظهار انتمائه الى مانشستر بمرافقة والدي في جولة على كل موقع له أهمية تاريخية في المنطقة.
وعلى شاكلة المستشرقين البريطانيين الذين كانوا يتبنون عن وعي الزي والعادات العربية التقليدية، اصبح ابناء عائلات المهاجرين الاوائل هذه بملابسهم المصنوعة من قماش التويل القطني الثخين وجاكيتات التويد المرقعة بالجلد حماة وانصار تلك القيم الانكليزية التقليدية التي اخذت تتآكل تدريجاً وتهجرها البلاد التي اختاروا الانتماء اليها.
وعلى رغم ان الكثيرين من المهاجرين العرب الذين وفدوا في وقت لاحق الى بريطانيا قبل الحرب كانوا تلقوا تعليمهم في مدرسة سان جورج في فلسطين ايام الانتداب، وهي نسخة زائفة من المدارس الخاصة في بريطانيا، تتألف هيئتها التدريسية بشكل اساسي من خريجي الكليات الدينية في كامبردج واكسفورد، حيث تُلعب الكريكت على ارض مكسوة بلحاء جوز الهند بسبب صعوبة الحصول على ملعب مكسو بالعشب في القدس، وتوزع الجوائز في يوم مخصص لهذه المناسبة يحضره الحاكم بكامل أبهته، فان تجارب الفترة الاولى لوصولهم الى انكلترا ظلت مربكة على نحو مضحك.
عندما سافر والدي للمرة الاولى الى بريطانيا في مطلع الثلاثينات، برفقة احد زملاء الدراسة الاكبر سناً رجاء الحسيني، ابن اخ المفتي، وجد ان هناك خمسة طلاب عرب اخرين فقط معه في جامعة كامبردج: رافق كل تصرفاتهم سوء الفهم والارباك. فعندما قُدم اليه للمرة الاولى طبق العصيدة Porridge، اُضطر الى ان يسأل النادلة كيف ينبغي ان يأكله: مع الحليب، مع الملح والفلفل، مع السكر، او كما هو عليه؟ وواجه مواقف اخرى ناجمة عن سوء الفهم في زيارة الى دكان الحلاق عندما ابلغه ان في امكانه الاستماع الى الموسيقى وهو جالس في الكرسي مقابل دفع ستة بنسات اضافية. ولم يدرك الاّ بعد ان شم رائحة حرق ان الحلاق كان يشير الى المادة المدرجة ضمن لائحة الخدمات الاضافية تحت اسم "سينجينغ - 6 بنسات" Singeing 6d، وتعني الحرق السطحي للشعر إعتقد خطأً انها "سينغينغ" Singing، وتعني الغناء.
اعتكف ابي خلال عطلته الاولى في فندق قرب غيلفورد للمراجعة استعداداً لامتحان وشيك في موضوع القانون الدستوري constitutional law. وبعد ان انتهى من افراغ محتويات حقيبته في الغرفة تناول عصاه ونزل للتمشي قليلاً قبل تناول العشاء. واثناء اجتيازه غرفة الاستقبال مرّ بعجوز ضئيلة الحجم ابتسمت له برقة وتساءلت بعفوية اذا كان يوشك ان يباشر ب "التنزه سيراً على الاقدام"، مستخدمة تعبير constitutional الذي يحمل ايضاً معنى "دستوري". فعاد الى الفندق وهو يشعر باضطراب شديد لهذا الحادث، مندهشاً لقدرة هذه العجوز على التنبؤ التي اعتبر انها قد تكون احدى السمات الكامنة للشخصية الانكليزية التي كان يجهلها حتى ذلك الحين. ومنذ تلك الواقعة امسى اكثر حذراً لاعتقاده ان نواياه وتصرفاته كانت مكشوفة حتى للمتفرج غير المبالي. حدث هذا في وقت كان لا يزال العرب من سكان الارياف يؤمنون بان الكثير من الانكليز سحرة يستحضرون العفاريت والجن بسبب ما عُرف عنهم من التردد على الاطلال الموحشة.
كانت المجموعة الصغيرة من الطلبة العرب في كامبردج تستضيف احياناً الامير الشاب فاروق الذي كان انذاك طالباً في كلية دارتموث التابعة للبحرية، فتُعد له على عجل في غرفة والدي في كلية كوينز حفلة استقبال يُستخدم فيها الطقم المعتاد من الآنية المكسرة الخاصة بالطلبة. وفي الزيارة الاولى للامير بداً مهتماً بشكل خاص بمعرفة كيف يُحافظ على الضبط والنظام في كامبردج خلال عطلات الاسبوع. وعندما اوضحوا له ان المراقب اعتاد القيام بالتجوال مع اثنين من ال Bull Dogs تعني الكلمة مرافقي المراقب في كامبردج، لكنها تُستخدم ايضاً اسماً لكلاب فصيلة "البُلدوغ" يتوليان ملاحقة السكارى واقتيادهم الى كلياتهم، ابدى الامير رغبته في معرفة كيف تتمكن كلاب "البُلدوغ" هذه من التمييز دائماً بين طالب الجامعة السكير وأحد ابناء البلدة.
اعتاد العرب القلائل الذين بقوا في بريطانيا في الثلاثينات بعد التخرج من الجامعة التردد على صالونين، احدهما لفرانك وسيلا روبرتس والآخر للكولونيل نيوكومب، الذي عمل لورانس تحت امرته خلال الحملة العسكرية في العالم العربي. كان نيوكومب، وهو رجل طويل القامة ذو بشرة داكنة ومربوع القامة، متزوجاً من سيدة تركية فاتنة ممتلئة كانت ممرضة في المستشفى - السجن الذي ساعدت الكولونيل على الهرب منه والعودة الى خطوط القتال البريطانية. وتُعزى شعبية هذين المجلسين جزئياً الى انهما كانا الوحيدين في لندن اللذين تقدم فيهما مأكولات عربية اصيلة.
في منزل الكولونيل نيوكومب التقى والدي للمرة الاولى رجلاً انكليزياً ذا لحية كثة اسمه سانت جون فيلبي. وظناً منه ان الرجل احد سكان الريف الذين اعتاد المرء اللقاء بهم احياناً في حفلات خلال الثلاثينات، استفسر منه عن المنطقة التي قدم منها. تردد الرجل الملتحي قليلاً قبل ان يجيب "مكة"، متلفظاً الاسم بالطريقة العربية بتشديد قوي على المقطع الاول. وبما انه لا يُسمح الاّ للمسلمين بالدخول ضمن اسوار المدينة المقدسة فان والدي افترض ان يكون الرجل مخموراً او انه يتعمد الهراء.
بلغ ذلك الجيل من المهاجرين العرب الى بريطانيا من الاندماج في حياة الانكليز والتطبع بعاداتهم خلال الثلاثينات والاربعينات انه لم يكن شيئاً غير مألوف ان يتوهم البعض فعلاً انهم انكليز اثناء عودتهم في زيارات نادرة الى الشرق الاوسط. وتوضح حكايتان أخريان هذا الانسلاخ لجيل المهاجرين عن العالم الذي خلّفوه وراءهم:
عندما عُيّن ابي بعد الحرب عميداً للفنون والعلوم في الجامعة الاميركية في بيروت قد تكون اكثر مؤسسات الاغتراب بقاءً ونفوذاً في المنطقة، على رغم ان البيئة الليبرالية لحرمها ستصبح ايضاً مهد القومية العربية والتطرف الفلسطيني اُنيطت به مسؤولية مرافقة الكاتب اللبناني ادوارد عطيّة في زيارة الى منزل آل حوراني في مرجعيون في المنطقة الحدودية في جنوب لبنان الواقعة حالياً ضمن الحزام الامني لاسرائيل. وعند اقترابهم من البلدة طلب عطية من والدي مراراً ان يتوقف كي يلتقط صوراً فوتوغرافية لنبات الّفلى البري على جانب الطريق. وفي احدى هذه الوقفات اطل ابي من نافذة السيارة ليشاهد حرساً مسلحين وهم يقتادون عطية الى مركز للدرك. وكلما احتج الروائي بقوة اكبر مؤكداً براءته كان الحراس يزدادون قناعة بأنهم امسكوا بجاسوس اسرائيلي خطير. كانت مجموعة كبيرة من الشخصيات البارزة، من ضمنها سيسيل حوراني وموسى العلمي، احتشدت في دار عائلة حوراني، وانتابهم استغراب شديد عندما وصل والدي الى المكان من دون ضيف الشرف. واُضطر الزعماء الى الذهاب بانفسهم واطلاق الكاتب السيء الحظ.
سافر والدي في السنة نفسها لحضور حفلة تنصيب رئيس جديد للجامعة الاميركية في القاهرة ووجد نفسه جالساً في جوار وزير التعليم المصري الجديد على منصة الخطباء. وكان مظهر والدي اصبح انكليزياً لدرجة ان الوزير التفت اليه بعدما انتهى من القاء كلمته وهنّأه على لغته العربية.
لكن الاعجاب بالانكليز وثقافتهم لدى اجيال المهاجرين بدأ يخبو تدريجاً تحت تأثير الخطاب المناهض للامبريالية خلال العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية وصعود القومية العربية. ولم يستطع اولاد واحفاد تلك الاجيال، الذين ولد بعضهم في بريطانيا ونشأ غيرهم في بريطانيا من أعمار صغيرة، وكان آباؤهم وامهاتهم منفيين سياسيين ولاجئين من الحرب الاهلية اللبنانية، ان يتقبلوا من دون تحفظ الهوية العربية التي كان آباؤهم نبذوها او اعادوا تكوينها على السواء، او الهوية البريطانية التي اكتسبوها شكلياً. اصبحت كلا الهويتين مصدر إشكال. وكان انهم بقوا منعزلين ضمن كلا الثقافتين.
واجه الكتاب والفنانون الذين نشأوا وسط بيئة المهاجرين هذا المأزق باستراتيجيات مختلفة، فبعضهم تعامل معه بشكل ملتوٍ فيما كان رد البعض الآخر قوياً. واصبح هذا التغرب المزدوج عن الواقع، مثل نفي فيلوكتتيس الى جزيرة ليمنوس، اشبه بجرح وهبة على السواء.
وفي اعمال ذلك الجيل من الكاتبات العربيات اللواتي اقمن في بريطانيا، مثل حنان الشيخ ومي غصوب واهداف سويف، يتبدى تأثير الانثوية و "ادب الاعتراف" في التعبير عن محنة المرأة العربية وإبرازها.
ويتواصل ادب الاعتراف هذا في كتابات اولئك الكتاب المهاجرين الشباب الذين سعت رواياتهم بشكل واعٍ الى معالجة ارث الاستشراق. ويمكن اعتبار عمل هاني حمود "المستغرب" المكتوب بالفرنسية بمثابة عكس مدروس وبارع لادب الرحلات الذي يركز على الجنس والمخدرات لكتاب مستشرقين مثل فلوبير ودو نيرفال. وعلى نحو مماثل، فسّر بعض النقاد روايتي "حنين الى الوطن" بأنها عكس واعٍ لاعمال الانثروبولوجيا الغربية عن المشرق. وحسب هذه القراءة، تُصوّر القوانين والطقوس الداخلية للمدرسة الخاصة في بريطانيا بطريقة متعمدة كبيئة غرائبية ومُغرّبة يحاكي تحليلها وادراكها بشكل ساخر تصوير مجتمعات مشرقية، مثل البدو او عرب الاهوار، وفق منظور عالم الانثروبولوجي الغربي.
خارج نطاق بريطانيا، احتفظ كثرة من اولئك الروائيين العرب الانغلوفونيين المهاجرين، مثل منى سيمبسون وامين معلوف، ممن يبدو ظاهرياً انهم تبنوا نظرة اندماجية في المواضيع التي تناولوها والاشكال الادبية المختارة، بمنظور الغريب الى تاريخ الثقافات التي تبنوها وخصوصياتها الذي يستمر في اكساب رواياتهم ما تمتاز به من تفحص دقيق ومناظير اصيلة.
يعيش الكاتب المهاجر المندمج مثل جاسوس متقاعد، انتهت مهمته منذ وقت بعيد، وسُرّح المسؤولون عن توجيهه منذ وقت بعيد، ولم تبق اساليب التخفي التي تدرب عليها الاّ كعادة موروثة. لكن، لا يزال المظهر الخارجي الذي يوحي بحسن الاطلاع يخفي وراءه تلك الشخصية التي تنظر باستغراب الى العالم كانها جاءت من كوكب اخر وتعبّر عنه شعرياً.
وعلى رغم ان العديد من الروائيين المهاجرين الذين يعملون في بريطانيا، وابرزهم حنان الشيخ، لا يزالون يكتبون باللغة العربية، فان امثال هؤلاء الرافضين الانكلوفونية يشكلون حالياً الاستثناء وليس القاعدة. كان استخدام اللغة العربية كأداة تعبير اساسية اصبح إشكالياً حتى وسط الاجيال الاولى من المهاجرين. واُضطر فضلو حوراني الى إعادة ابنيه الى لبنان ليتعلما العربية، وفي سنوات لاحقة، اثناء الفترة التي امضاها البرت حوراني في الجامعة الاميركية في بيروت كبروفسور زائر، كان هدفاً بعض الاحيان للمزاح بسبب اساءة استعماله الالفاظ.
واحسب ان المثال الاهم على رافضي الانكلوفونية ضمن جيل المهاجرين الاصغر سناً هو كاتب السيناريو والمنتج السينمائي عمر قطان الذي اتعاون معه حالياً لانتاج فيلم يستند الى روايتي "حنين الى الوطن". وكان قطان، الذي استقر في بريطانيا منذ ابتداء الحرب الاهلية في لبنان وتلقى تعليمه ضمن نظام المدارس الداخلية البريطاني، اختار بشكل متعمد ان يترك الجامعة ويعود الى القاهرة لمدة سنتين كي يتعلم اللغة العربية من جديد.
وبدل معالجة مواضيع المنفى واجتثاث الجذور، سعى قطان بالتعاون مع المخرج ميشال خليفي الى تفاعل مباشر مع تلك المواضيع والنصوص بالذات التي تتحدى وتتخطى التصورات المسبقة الاخلاقية والسياسية للمجتمع العربي. فيتفحص قطان في فيلم "احلام وصمت" التناقضات بين النزعة الاسلامية والحاجات والرغبات اليومية للاجئين في الاردن. وتمكن في اطار الحكايات المجازية والواقعية لفيلم "حكاية الجواهر الثلاث" من استكشاف آثار الانتفاضة والاحتلال الاسرائيلي بالنسبة الى وحدة العائلة العربية، وواجهت افلام وثائقية اخرى موضوعات محرمة عن الزيجات المختلطة بين العرب واليهود والنزعة العنصرية بين العربي والافريقي داخل المجتمع الفلسطيني.
وعلى رغم استمراري في العمل ضمن اطار التقليد الادبي الانكلوفوني، فان روايتي الثانية "مدينة وهمية" تستغل هذه الميزة للمنفي لتكشف عن حكايات منسية ومحرمة. ومن ضمن فضاءات الذاكرة الاساسية للرواية، المجاعة خلال الحرب العالمية الاولى وإرث الاقطاع في الريف اللبناني والمحن التي عاشتها جماعات السكان الشيعية في الجنوب ومصير سكان المخيمات الفلسطينية في السنوات الاخيرة للحرب الاهلية.
* الكلمة الرئيسية التي ألقاها في المؤتمر الاقليمي ل "المجلس البريطاني"، في القاهرة في الفترة من 23 إلى 26 آذار مارس 1998، الروائي الفلسطيني - البريطاني طوني حنانيا الذي ستصدر روايته الثانية "مدينة وهمية" عن دار "بلومزبري" للنشر في خريف السنة الجارية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.