عزا كثير من الاقتصاديين الأزمة المالية الأخيرة في الأسواق الآسيوية إلى العولمة باعتبار أن الإقتصادات الآسيوية تأثرت بالمضاربات في العملات وانسحاب الحقائب الاستثمارية الأجنبية المفاجئ من المشاريع الاستثمارية، والاقتراض المفرط للشركات الآسيوية من الدائنين الأجانب. ويقول هؤلاء ان تلك الأمور ما كانت لتحدث لولا انفتاح الإقتصادات الآسيوية أمام المنافسة الأجنبية وارتباطها بشكل أو بآخر بالمؤثرات الأجنبية. وعلى رغم أن جُل ذلك صحيح، فإن الانفتاح الاقتصادي هو المسؤول أيضاً عن التقدم الاستثنائي الذي حققته الاقتصادات الآسيوية خلال فترة وجيزة. ولم تكن تلك الاقتصادات لتحقق جزءا مما حققته من نمو اقتصادي مرتفع لولا توافر المال الأجنبي وسهولة الحصول عليه بفوائد منخفضة، لأن معظم الدول الآسيوية المتأثرة لا تمتلك أية مصادر طبيعية أو رؤوس أموال ضخمة تمكنها من تحقيق النهضة الصناعية التي شهدتها خلال العقود الثلاثة الأخيرة. إذ بلغ نمو اجمالي الناتج المحلي السنوي في الدول الخمس الأعضاء في منظمة آسيان إندونيسيا وماليزيا والفليبين وسنغافورة وتايلند ما يقارب 8 في المئة سنوياً خلال العقد الماضي. وفي الأعوام الثلاثين التي سبقت الأزمة، ارتفع نصيب الفرد من الناتج القومي عشرة أضعاف في ماليزيا على سبيل المثال لا الحصر. بل إن نصيب الفرد من الدخل القومي في كل من هونغ كونغ وسنغافورة وهما لم تتأثرا بالأزمة بالقدر الذي شهدته الدول الأخرى تجاوز الآن مثيله في بعض البلدان الصناعية العريقة كبريطانيا وإيطاليا. إذ تجاوز نصيب الفرد من الدخل القومي في هونغ كونغ 25 ألف دولار سنويا وهو يقارب المستوى السائد في الولاياتالمتحدة. وفي العقد الماضي، تضاعفت حصة الأسواق الآسيوية، النامية منها والناشئة، من الصادرات العالمية لتصل إلى خُمس الإجمالي العام للصادرات العالمية. وحتى الأزمة الأخيرة، استقطبت آسيا نصف التدفقات الرأسمالية إلى البلدان النامية، ووصلت إلى 100 بليون دولار تقريباً عام 1996 وحده. وكل ذلك بفضل الانفتاح الاقتصادي والتكامل مع الاقتصادات العالمية الأخرى الذي سعت إليه الدول الآسيوية والذي نال ثقة المستثمرين الأجانب فسارعوا الى اغتنام الفرص الاستثمارية التي وفرتها لهم تلك الاقتصادات. ويجد المتتبع لإقتصادات النمور الآسيوية أن من بين الأسباب المهمة للأزمة الأخيرة أن الاقتصادات الآسيوية تقوقعت على نفسها وأخذت تنتج المنتجات نفسها وتتنافس مع بعضها بعضاً في أسواق الصادرات نفسها، ولم تسعَ إلى تنويع صادراتها وتوزيع أسواقها في مناطق العالم المختلفة. لذلك فان هذه الاقتصادات انهارت بالسرعة التي رأيناها بمجرد ضعف الطلب على منتجاتها في أسواق اليابان وباقي آسيا. اختلفت الأزمة الآسيوية عن الأزمات الاقتصادية العالمية السابقة في أمور عدة، أهمها أنها لم تعكس إسرافا في الإنفاق العام، أي أن حكومات البلدان المتأثرة بالأزمة كانت أما تتمتع بفوائض مالية أو عجز مالي منخفض. كذلك فان الأزمة جمعت بين الأزمتين المصرفية والنقدية، وكانت لها آثار مدمرة أكثر مما كان متوقعا، إذ تركت نتائج حادة على الاقتصادات الحقيقية للبلدان المتأثرة. الأسباب الحقيقية للأزمة وعلى رغم الاختلافات بين الاقتصادات الآسيوية فمن الممكن تحديد بعض الأسباب المشتركة حتى وان كانت آثارها متفاوتة. وسنكتشف أن الأسباب الحقيقية الكامنة وراء الأزمة هي أسباب داخلية في جوهرها وان كانت خارجية في مظهرها. ووصف صندوق النقد الدولي مأساة البلدان الآسيوية بأنها "نشأت في ارض خصبة" أي أن هناك ما يبرر قيامها ضمن الاقتصادات المتأثرة. وينبغي الاعتراف بأن هناك عوامل خارجية عدة يمكن أن تفسر قيام الأزمة، لكنها هي الأخرى مرتبطة بالظروف الداخلية السائدة في تلك الدول. ولو كانت الظروف الداخلية مختلفة لاختلفت تأثيراتها عليها. فقد تباطأت واردات البلدان الصناعية كثيرا خلال الأعوام القليلة الماضية لأسباب عدة، منها تناقص الطلب على منتجات الدول الآسيوية، وهي بالدرجة الأولى الأجهزة والمعدات الإلكترونية الخفيفة، في أوروبا بسبب الكساد الاقتصادي فيها، وفي الولاياتالمتحدة بسبب المنافسة القوية من الصين التي تحسنت تنافسيتها بسبب خفضها لقيمة عملتها "اليوان"، ومن اليابان للسبب نفسه بعد انخفاض سعر الين مقابل الدولار. إلا أن أهم سبب للازمة هو فقدان التنافسية التي كانت تتمتع بها المنتجات الآسيوية بسبب ارتفاع أسعار العملات الآسيوية في الأعوام الأخيرة، والذي يعود إلى التفاؤل المفرط الذي شجع على الإفراط في الاستثمارات غير المجدية. وساعدت احتمالات انخفاض صادرات البلدان الآسيوية، التي تعتمد كليا على التجارة، على إضعاف ثقة المستثمرين الأجانب وإنذارهم بان الإيرادات العالية التي حصلوا عليها خلال الأعوام القليلة الماضية أصبحت مهددة. إذ اعتبر أولئك المستثمرون الأسواق الناشئة أسواقا جذابة توفر فرصا استثمارية متزايدة وعائدات مرتفعة، خصوصا عند مقارنتها بالإيرادات المتأتية من الاستثمارات في الدول الصناعية، وكانوا مستعدين لتقبل المزيد من المخاطر المتوقعة في الأسواق الناشئة مقابل الحصول على تلك العائدات المرتفعة. وأدى ذلك إلى ارتفاع التدفقات الرأسمالية إلى البلدان الآسيوية وبالتالي أضعافها أمام احتمالات ارتفاع إيرادات الاستثمار في البلدان الصناعية، أو في حالة حصول تقلبات في توجهات السوق لا تتفق ومصلحة الاقتصادات الآسيوية. وكلا الأمرين حدثا عام 1997 عندما بدأت أسعار الفائدة في الارتفاع في أوروبا والولاياتالمتحدة، بسبب ازدياد الطلب على رؤوس الأموال في هذه البلدان الذي نتج بدوره عن تنامي النشاط الاقتصادي فيها. وحدث ذلك في وقت تضاءلت ثقة المستثمرين بالاقتصادات الآسيوية على رغم الضمانات التي قدمتها بعض الحكومات في الدول المذكورة والتي استقطبت المستثمرين في المقام الأول. مسؤولية الحكومات الآسيوية وعلى رغم العوامل الخارجية المذكورة فان معظم المحللين، بما في ذلك صندوق النقد الدولي، يرون بان الحكومات الآسيوية تتحمل القسم الأكبر من اللوم على نشوء، ومن ثم تفاقم، الأزمة الآسيوية. إذ أخفقت تلك الحكومات في تخفيف الإحترار الاقتصادي الذي تجلى في تنامي العجوزات الخارجية وتضخم أسعار الأصول. وحصل ذلك بسبب التوسع الاقتصادي المفرط في تلك البلدان، إذ تجاوزت معدلات النمو الاقتصادي 7 في المئة في العام. وحصل هذا التوسع الاقتصادي بسبب الاستثمارات، ولكنه، على رغم المستويات العالية للمدخرات الخاصة والعجوزات المالية المنخفضة، تحول إلى عجز متنام في الحساب الجاري. لكن ذلك لم يشكل أية مشكلة في حينه لأن العجز تم تمويله عن طريق التدفقات الرأسمالية من الخارج التي استقطبها النمو الاقتصادي السريع وإجراءات إزالة اللوائح من القطاع المالي، واستقرار أسعار الصرف وارتفاع عائدات الاستثمارات عما هو سائد في البلدان الغربية. إذ قفزت التدفقات الرأسمالية الخاصة إلى إندونيسيا وكوريا الجنوبيةوماليزيا والفليبين وتايلند من 48 بليون دولار عام 1994 إلى 93 بليوناً عام 1996. إلا أن المشكلة في تلك التدفقات هي أن جزءاً كبيراً منها كان على شكل حقائب استثمارية - معظمها على هيئة قروض من المصارف العالمية - وليس على هيئة استثمارات مباشرة. وابقى هذا التدفق الرأسمالي، أسعار الفائدة منخفضة أكثر مما تستدعيه الظروف الاقتصادية المحلية. لذلك فان الإقراض القصير الأمد الذي نتج عن هذه الحالة تسبب في تأجيج ارتفاع أسعار العقارات التي تبين لاحقاً أنها مؤقتة. كان في الإمكان معالجة المشاكل المتعلقة بالإحترار المفرط في الاقتصادات المرتبطة ببعضها بعضاً، والنمو المفرط في الإئتمانات وتنامي التدفقات الرأسمالية عن طريق خفض عرض النقود محليا ورفع الضرائب وخفض الإنفاق العام أو من خلال زيادة القيود الرأسمالية. لكن السلطات الآسيوية أخفقت في القيام بأي إجراء من هذا القبيل. ومن الأسباب التي أججت الارتفاع في أسعار العقارات والأصول أن أسعار العملات في دول المنطقة أصبحت تفوق قيمتها الحقيقية. فقد ربطت معظم دول جنوب شرق آسيا عملاتها بالدولار، على رغم أن تجارتها مع الاقتصادات المتطورة الأخرى، مثل اليابان، تفوق كثيرا تجارتها مع الولاياتالمتحدة. وعندما ارتفع سعر الدولار ارتفاعا حادا مقابل الين والعملات الأوروبية بعد عام 1995، ارتفعت أسعار العملات الآسيوية هي الأخرى لمجرد ارتباطها بالدولار وليس لأسباب تتعلق باقتصاداتها. وبحلول تموز يوليو 1997، ارتفع سعر الدولار مقابل الين بأكثر من 30 في المئة مقارنة مع السعر الذي كان سائداً مطلع عام 1995. ومع تنامي قوة الدولار، انخفضت تنافسية الاقتصادات الآسيوية نسبة إلى اليابان. وبالمقارنة مع أسعار العملات عام 1990، فان عملات كل من ماليزيا وسنغافورة وتايلند ارتفعت بحوالى 10 في المئة، وإندونيسيا بحوالى 20 في المئة والفلبين بحوالى 30 في المئة. إن انخفاض تنافسية الصادرات وتنامي عجوزات الحساب الجاري وتضخم أسعار الأصول وتزايد الإئتمانات الأجنبية المقدمة للقطاع الخاص تزايدا حادا، كلها عوامل تطلبت خفض أسعار العملات الآسيوية. إلا أن السلطات في الدول الخمس لم تفعل شيئاً لدرء الأخطار التي كانت تلوح في الأفق. وتوهم المسؤولون والمستثمرون على حد سواء بان استقرار أسعار الصرف سيدوم من دون الحاجة إلى بذل المزيد من الجهود لمراقبتها، وبذلك تدفقت القروض التي يهيمن عليها الدولار إلى اقتصادات المنطقة. وشجع ارتفاع سعر العملات المفرط المزيد من الاقتراض الخارجي وقاد إلى تعريض الاقتصاد بشكل مفرط للمخاطر الخارجية المقترنة بسعر الصرف. وقد دفع ذلك الاستثمارات الجديدة إلى القطاعات غير التجارية، خصوصاً قطاع التشييد، وبعيدا عن القطاعات التجارية الضرورية التي تتولد من خلالها ثروات حقيقية يمكن استخدامها في تسديد الديون الخارجية وخدماتها. ثقة المستثمرين لكن أسعار العملات مرتبطة دائما بمقدار ثقة المستثمرين في الاقتصادات الآسيوية، وعندما اختفت تلك الثقة وتقلصت، أصبح خفض العملة أمراً محتوماً، لان فقدان التنافسية، الناتج عن ارتفاع أسعار العملات، كان نفسه مسؤولا عن فقدان الثقة في الاقتصادات نتيجة لانخفاض طلبيات الصادرات. إذ بلغ نمو الصادرات الإجمالي في جنوب شرق آسيا، حسب أسعار هذه الصادرات بالدولار، 5.6 في المئة فقط عام 1996، منخفضا من 22.8 في المئة عام 1995، أي بانخفاض قدره 75 في المئة. وكان ذلك بمثابة إنذار للمستثمرين باختلال وشيك في الاقتصادات الآسيوية مما دعاهم إلى الإسراع في التخلص من العملات الآسيوية. أصبح من الواضح الآن أن النمو الاقتصادي القوي في آسيا خلال العقود الأخيرة أخفى وراءه ممارسات مصرفية غير منضبطة في أحيان كثيرة ومنفلتة في أحيان أخرى. يضاف إلى ذلك غياب الشفافية التي زادت من الغموض وأخفت الكثير من الاختلالات والتجاوزات، وسهّلت حصول شركات تتميز بالضعف وانعدام الكفاءة على قروض كبيرة لا تتناسب مع قدرتها على التسديد. واخفق المصرفيون في تقويم المخاطر المالية التي اقدموا عليها ربما بسبب اعتقادهم بان النمو الاقتصادي المتسارع الذي شهدته الأعوام الماضية سيسعفهم دائما من النتائج المترتبة على اتخاذهم قرارات خاطئة في ما يتعلق بالإقراض. وزاد التدخل السياسي المشكلة تعقيدا في كوريا الجنوبية، إذ تعاملت الحكومة مع المصارف باعتبارها وسائل تستخدمها الدولة في السياسة الصناعية، تأمرها بإقراض الشركات والصناعات التي لا تتمتع بقابلية ائتمانية متينة. أما في بلدان مثل ماليزيا وتايلند وإندونيسيا فان المؤسسات المالية قامت بتمويل المشاريع لأسباب سياسية لا علاقة لها بالربحية أو الجدوى الاقتصادية، بل كان هدفها الحصول على الامتيازات التي سيقدمها السياسيون لهذه الشركات في المقابل من دون النظر إلى النتائج المترتبة على مثل هذه الأعمال. وفي إندونيسيا امتزجت السياسة بالتجارة واصبح السياسيون، خصوصاً عائلة الرئيس سوهارتو وأصدقاءه، تجاراً ورجال أعمال وسيطروا على اكبر المشاريع في البلد وحصلت شركاتهم على امتيازات وائتمانات لا تستحقها على ارض الواقع. اضافة إلى ذلك فان البنوك في المنطقة افترضت على ما يبدو أن الرخاء الذي مكّنها من تحقيق أرباح طائلة في الماضي سيستمر إلى ما لا نهاية، لذلك أخفقت في الأخذ في الاعتبار احتمال حصول سيناريو مختلف، وأخفقت في التحصن ضد احتمال انخفاض سعر العملة. وافترض المصرفيون ان في إمكانهم دائما كسب الأرباح السهلة من خلال الاقتراض بالدولار لشراء أصول بالعملة المحلية. والآن، وبعد انخفاض العملة، فانهم يواجهون الاحتمالات القاسية بدفع تلك القروض الأجنبية بأضعاف قيمتها الأصلية. أما الخطأ الثاني الذي أرتكبه المصرفيون فهو الإقراض المتساهل لشراء العقارات. فبعدما ظنوا أن الطلب على المكاتب والفنادق والمحلات والبيوت سيستمر في الارتفاع، قاموا بتقديم القروض، ومن دون ضمانات كافية، لتمويل المشاريع الإنشائية الضخمة التي بولغ في مردوداتها المستقبلية. لكن السعة المفرطة تسببت في خفض الأسعار والإيجارات انخفاضا حادا في العديد من المدن الآسيوية. وأثر ذلك بدوره على العديد من المصارف الكبيرة التي منحت بين 10 في المئة إلى 35 في المئة من قروضها إلى المشاريع الإنشائية التي توقفت عن العمل في ما بعد. واستنادا إلى إحدى التقديرات، فان نسبة القروض المعدومة لمصارف شرق آسيا أصبحت تشكل بين 10 في المئة و20 في المئة من إجمالي قروضها، وهذه نسبة مرتفعة جدا عند مقارنتها مع النسبة المعتادة في الاقتصادات الصناعية المماثلة التي لا تتجاوز 1-1.5 في المئة. ومن المتوقع أن ترتفع هذه التقديرات كثيرا في المستقبل بعد أن يعجز المزيد من الشركات والأشخاص عن التسديد. ويعتقد بعض المحللين بأن الديون غير العاملة لمصارف جنوب شرق آسيا قد تصل إلى 73 بليون دولار كحد أقصى، ويمثل ذلك 13 في المئة من اجمالي الناتج المحلي في المنطقة. حاول صندوق النقد الدولي خلال الأعوام القليلة الماضية إقناع الدول الآسيوية بان الإقراض إلى سوق العقارات المنتفخة قد تسبب في السابق في رفع مستوى الديون المعدومة في القطاع المالي بشكل خطير، لكنه لم يستطع إقناع تلك البلدان التي حققت نجاحاً استثنائيا خلال فترة الثلاثين عاما الماضية، خصوصاً ان هناك بين زعماء هذه الدول من ينظر بعين الريبة إلى الصندوق ومن يقف وراءه من الحكومات الغربية، أمثال الدكتور مهاتير محمد رئيس وزراء ماليزيا. لكنهم في النهاية لم يجدوا ملاذا من أزماتهم إلا في الصندوق والحكومتين الأمريكيةواليابانية اللتين اضطرتا، لأسباب تتعلق بإقتصاديهما، إلى مد يد العون لآسيا. وفي تقرير سري في نيسان ابريل 1996 كُشف النقاب عنه في ما بعد، أوضحت إدارة صندوق النقد الدولي المخاوف التي كانت أطلعت الحكومات الآسيوية عليها خلال العام السابق للتقرير. إذ أبلغوا للسلطات الإندونيسية والماليزية والكورية والتايلندية ان النمو المتسارع في الطلب استهلك السعة الاحتياطية في اقتصاداتها وان الإحترار الاقتصادي أصبح وشيكا. لكن الماليزيين والإندونيسيين أصروا على أن الاستثمارات أوجدت سعة كافية في اقتصادي البلدين ليواصلا نموهما المتسارع. أما الكوريون فقالوا إن تقييد السياسة المالية ليس ممكنا من الناحية السياسية في وقت لم تظهر إشارات واضحة تدل على ارتفاع التضخم. وعارض كل من إندونيسيا وتايلند وكوريا توصية صندوق النقد الدولي برفع أسعار الفائدة. كذلك لم تلقَ التحذيرات بتقييد اللوائح في القطاع المالي إلا استجابات محدودة لا ترتقي إلى مستوى الأخطار المحدقة بتلك الاقتصادات. وأدى هذا الموقف الى احتدام الخلاف بين الصندوق والدول الأعضاء حول مخاطر الاحترار الوشيك. وكان الانطباع السائد حينئذ هو لماذا يؤخذ برأي الصندوق الذي لم يكن مصيبا في تحفظاته السابقة في وقت لم تُخطئ الحكومات كثيرا في تقديراتها السابقة. إلا أن العكس حدث هذه المرة إذ كانت الحكومات مخطئة في تفاؤلاتها واضطرت إلى دفع الثمن غاليا. وعندما اندلعت الأزمة، زادت الشكوك المتعلقة بمدى قدرة الحكومات المختلفة والتزامها بتنفيذ التعديلات والإصلاحات الضرورية من تفاقم المشاكل، كما زاد التردد في رفع أسعار الفائدة وإغلاق المصارف المعسرة قد زاد من اضطراب الأسواق المالية. وتنطبق الأسباب المذكورة أعلاه على معظم البلدان الآسيوية على رغم الاختلاف في تأثيراتها من بلد لآخر. إذ على سبيل المثال تعاني ماليزيا من تضخم أسعار العقارات، بينما تعاني المصارف الإندونيسية من ارتفاع نسبة القروض غير العاملة بين قروضها، أما في كوريا فقد قامت الحكومة بتسهيل حصول الشركات الكورية على قروض تفوق بكثير قدرة تلك الشركات مما جعلها لا تصمد حين تأتي دورة الكساد الاقتصادية التنازلية. كما هو الحال مع كل أسواق الصرف الأجنبية، عندما تبدأ عملية بيع العملة ليس هناك ما يمكن عمله لوقف العملية، فالأسواق المالية عادة ما تكون ردود أفعالها عنيفة وفورية تجاه الأخبار السيئة ولن ينفع معها إلا أخبار أخرى في الاتجاه المعاكس. وعندما ينتشر الذعر فمن الطبيعي أن يتسابق المستثمرون إلى الخلاص من الخسارة، والنتيجة هي إلحاق المزيد من الضرر بالاقتصاد أكثر مما يستوجب الوضع. وبعدما اضطرت تايلند لتخفيض سعر عملتها في تموز عام 1997، فإن المشكلة سرعان ما انتقلت إلى البلدان الأخرى: الفلبين، ثم ماليزيا، وبعد ذلك اضطرت تايلند وإندونيسيا إلى التخلي عن الترتيبات السابقة في شأن العملة والسماح لعملتيهما بالانخفاض. وانخفض الدولار السنغافوري بنسبة 13.2 في المئة مقابل الدولار الأمريكي منذ تموز عام 1997 على رغم انه مدعوم باحتياط كبير للعملات الأجنبية ورصيد كبير في الحساب الجاري وفائض كبير في ميزان المدفوعات، بينما انخفضت سوق الأسهم السنغافورية بنسبة 45 في المئة. وسمحت تايوان لعملتها بالانخفاض، بينما اضطرت كوريا الجنوبية للتدخل للدفاع عن سعر عملتها التي انخفضت انخفاضا حادا في الأشهر الأخيرة. وحتى عملة هونغ كونغ، الدولار المحلي، المرتبط بقوة بالدولار الأمريكي في ظل ترتيبات مجلس العملة، لم تكن في مأمن من المضاربات. وعلى رغم أن هونغ كونغ نجحت في الإبقاء على الارتباط بين عملتها والدولار الأميركي بالسعر نفسه فان ارتفاع أسعار الفائدة الذي كان ضروريا للدفاع عن العملة تسبب في تباطؤ النشاط الاقتصادي في البلد والذي انعكس في انخفاض مؤشر أسعار الأسهم بنسبة 36.6 في المئة منذ تموز الماضي. رغم ذلك فإن صمود الاقتصادات التي تتمتع بأنظمة مالية قوية، مثل هونغ كونغ وسنغافورة وتايوان، يشير إلى المدى الذي لعبه الإقراض المنفلت للمصارف في الأزمة المالية الآسيوية، ويبرهن أيضا من دون أدنى شك بأن العولمة تعني في ما تعنيه إقامة أنظمة مالية منضبطة تتلاءم وتتناغم مع الأنظمة المالية العالمية. إن مجرد فتح الأبواب وإزالة اللوائح من دون معايير مدروسة ليس دائماً الطريق الأمثل للمشاركة في النظام الاقتصادي العالمي. فقد كانت البلدان الآسيوية بحاجة إلى إنشاء سوق للسندات يقلص من اعتمادها على المصارف، ونظام مالي مستقر مقيد بلوائح واضحة ومحكوم بقوانين صارمة قابلة للتطبيق على كل الناشطين في الاقتصاد من دون تمييز. إضافة إلى ذلك فإن الاقتصادات الآسيوية كان يعوزها التنوع في أصناف الصادرات وأسواقها، إذ كان معظمها ينتج البضائع نفسها ويتنافس في الأسواق نفسها، وان ذلك اقرب إلى التقوقع منه إلى العولمة.