يفتح مهرجان الفيلم الافريقي، الذي اختتمت اعمال دورته الثامنة قبل ايام في ميلانو، للمهتمين بالشأن السينمائي في تلك القارة مرة اخرى باب الاسئلة والتحولات، مثلما يسمح بتشخيص المنجز الفني والمعوقات التي تعترضه. إذ بدت مفردة "الفيلم الافريقي" واسعة وتحمل في طياتها اشكالات يصعب حصرها. هل هناك فعلاً صورة واحدة لأفريقيا اليوم؟ وهل يمكن وضع تجربة السينما الافريقية الاميركية، المختلفة في انشغالاتها وهمومها، ضمن سياق التجربة الافريقية السوداء؟ بل هل ان السينما الافريقية الناطقة باللغة الفرنسية او تلك الناطقة بالانكليزية هي المعبرة عن هويتها؟ وما هو حضور السينما العربية، خصوصاً تلك القادمة من شمال افريقيا ومصر، فيها؟ واذا كان مهرجان الفيلم الافريقي مناسبة لإثارة مثل هذه الاسئلة وغيرها، فهو يسعى في النهاية الى جعل هذه الاحتفالية بمثابة وقفة لتأمل المشهد السينمائي الافريقي، اضافة الى الاحتفاء به عبر دعوة المؤسسات المعنية بالشأن الثقافي والتعليمي والاعلامي لمد جسور التفاهم الثقافي والحضاري مع الشعوب الافريقية. وضمن هذا السياق سينتقل هذا المهرجان الى مدن ايطالية عدة من أجل هذه الغاية. غير ان السيدة اناماريا غالونه مديرة المهرجان، التي التقتها "الحياة"، ترى ان هذه المناسبة "توفر فرصة للتعريف بسينما ربما هي غير معروفة عالمياً، ومثلما شاهدت ان هناك موجة جديدة تشهدها هذه السينما". اما كم اختلفت هذه الدورة عن سابقاتها فتقول السيدة غالونة: "من ضمن جديد هذه الدورة استحداث فقرة لمسابقة اشرطة الفيديو لانتشاره في عالم اليوم بسبب انخفاض تكاليف الانتاج. وهناك تغيرات جوهرية على صعيد الانتاج وهذا يشمل الانتاجات المشتركة، ونجد هناك مثلاً شريطاً قصيراً انتج من قبل مخرج افريقي للمرة الاولى في الصين. وهناك آخر لمخرج فرانكوفوني باللغة الانكليزية ساهمت في انتاجه بلدان افريقية واوروبية عدة واستعان بممثلين محترفين. وهنا لا بد من الاشارة الى ان السينما الافريقية تعاني من ندرة الممثلين المحترفين، لكننا وجدنا خلال هذه الدورة ان هناك ثمة مواهب تستحق المتابعة والتقدير". ولكن ما هو سبب غياب الفيلم المصري عن هذه الاحتفالية، تجيب السيدة غالونه: "انها المرة الاولى التي تتغيب فيها مصر عن هذه الاحتفالية، على رغم اشتراكها مثلاً في السنة الماضية بخمسة أفلام تم اختيارها من بين عشرة افلام قدمت لنا. نحن لا نعتمد على بلد معين انما نقوم باختياراتنا على اسس فنية بحتة، وربما خلال هذه الفترة لا توجد نتاجات جديدة يمكن ان تقدم الى هذا المهرجان سوى فيلم او فيلمين وبالفعل وقع الاختيار على احدها. وسبق للافلام المصرية ان فازت مرتين بجوائز مهمة". ولكن كيف يُفسر الوجه الآخر للغياب، وهل قدمت دعوة للنقاد والمخرجين المصريين ولم يأتوا؟ تقول: "نعم قدمنا دعوة للنقاد الذين يأتون عادة الى هذا المهرجان لكنهم لم يحضروا". وعن غلبة موضوع المرأة في الافلام التي تم اختيارها، تؤكد: "نعم هناك موضوعان مهمان كانا وراء خياراتنا وهما: قضية المرأة في افريقيا وصراع الثقافات في تلك القارة". المشهد الافريقي فقرات هذه الدورة الخمس ربما وفرت فرصة طيبة لقراءة المشهد السينمائي الافريقي، وربما كانت محاولة للاجابة على تلك الاسئلة التي سقناها في البداية. ففقرة "المسابقة الرسمية للافلام الطويلة" شملت اثني عشر فيلماً طويلاً وأفردت لها ثلاث جوائز. وجاءت مساهمة سينما شمال افريقيا على الشكل التالي: السينما الجزائرية قدمت ثلاثة اشرطة، "شجرة القدر المعلق" للمخرج رشيد بنحاج، وقد ساهم التلفزيون الايطالي في انتاجه. ويدور حول شاب يعمل طباخاً في احد مواقع عمل المهاجرين المغاربة، ويحلم طوال الوقت بذلك اليوم الذي يؤهله للارتباط مع فتاة اعلان لا يملك منها سوى صورتها. لكن الاقدار تجمعه مع شابة ايطالية تحطمت علاقتها الغرامية مع صديق فتقرر السفر معه الى المغرب. هو يجد فيها تعويضاً لذلك الحلم في الاقتران بشابة ايطالية وهي من جهتها تتخذ من تلك المرحلة مهرباً للخلاص من تجربة مأسوية. وشريط "العرش" لمحمد شويخ أقرب لتمثل الحالة السياسية في بلده حيث ينعدم التسامح، ومن خلال قصة حب تنشأ بين شاب وشابة في قرية صحراوية نائية، يتحول صراع الناس مع تلك البيئة القاسية الى صراع قيم اجتماعية لا تسمح لحالة الحب ان تستمر. والنتيجة التي يشهد تفاصيلها الحبيبان هي خراب تام وقتل أعمى لسكان تلك القرية. بينما التقط شريط "عندما تتجمد الارض" لمحمد سوداني موضوعاً بعيداً عن هموم بلده، اذ عرض لوضع الجالية السنغالية ومعاناتها في ايطاليا. المساهمة المغربية مثلها شريط "مكتوب" لنبيل عيوش الحائز على جائزتين في مهرجان القاهرة للسنة الماضية، وجرى عرضه على صفحات هذه المطبوعة من قبل. وشريط "نساء... ونساء" العمل الثاني للمخرج سعد الشرايبي، ويدور حول قصص اربع نساء تجمعهن علاقة صداقة تعود الى ايام الجامعة وعرضناه سابقاً في هذه الصفحات. وقارب التونسي نوري بوزيد هو الآخر عبر شريطه "بنت فاميليا" قضية المرأة من زاوية الواقع اليومي الذي تعيشه. انه فيلم - حسب ما يقول المخرج - "عن غياب الرجل"، فنحن نتابع قصص ثلاث نساء من خلفيات مختلفة، جزائرية تعيش في بيت صديقتها في تونس هرباً من العنف المسلح في بلدها، أما صديقتها المطلقة التي تعمل في وكالة للهاتف فتنتظر ذلك الفلسطيني الذي أحبت، والأخرى تطفح من ثقل زوجها الغني الذي يحرمها من أبسط المتع اليومية، فتقرر الهرب الى بيت صديقتها. لكن بوزيد في النهاية، بقدر ما يثير المشكلة، يقدم حلاً عملياً يتمثل برجوع تلك الزوجة الغنية الى بيتها بعد ان ثبتت رأيها وأظهرت مواقع العطب. وحصل شريط بوزيد على الجائزة الثالثة ضمن هذه الفقرة وقدرها 8 ملايين ليرة ايطالية. وأبرز ما قدمته السينما السوداء فيلم "كيني وأدامز" للمخرج أدريس اودراغو من بوركينا فاسو، عن صديقين يجمعهما عشق سيارة وتخالفهما الأقدار ليتحول احدهما الى قاتل مطلوب من العدالة، فيما الثاني يحاول تحسين ظروفه المعيشية في الاندماج مع شركة نافذة. وحاز هذا الشريط على الجائزة الأولى وقدرها 15 مليون ليرة ايطالية. مقدمة من شركة النفط الايطالية "أجب" الداعم الرئيسي لفعاليات هذه الاحتفالية. وجاء شريط "فاورا، أم الكثبان" للمخرج المالي عبداللاي أسكوفار رائعاً في تعبيريته الانسانية والفنية، فهو بمثابة بورتريه صادق لعزم المرأة الافريقية، وتحية لأم تعمل المستحيل من اجل تخطي صعوبات الأيام وقساواتها. وهو ما جعله يحصل على الجائزة الثانية وقدرها 10 ملايين ليرة ايطالية مقدمة من مقاطعة لومبارديا، كما حازت بطلته الرئيسية على جائزة أفضل ممثلة. وجاء في كلمة لجنة التحكيم ان "هذا الفيلم يحمل في طياته الصدق في مقاربة عذابات ومعاناة الأم الافريقية". وعلى صعيد الفقرات الأخرى كانت نتائج مسابقة الأفلام القصيرة على الشكل التالي: حصل شريط "على الحافة" للنيجيري الشاب نيوتن أداكو على الجائزة الأولى في هذه الخانة وقدرها 10 ملايين ليرة ايطالية مقدمة أيضاً من "اجب". وحاز شريط "الغريب" لزولا ماسكو من جنوب افريقيا على الجائزة الثانية والجائزة الثالثة للشريط التعليمي والكوميدي "شئ كونته" للمخرجة فانتا ناكرو. اما المغربي نورالدي لخماري، الذي يبشر بموهبة تستحق الدعم والمتابعة، فقد حصل على جائزتين تقديريتين عن شريطه الرائع "ولد من دون حادلة تزحلق"، الأولى في مقدمة من السينماتيك الايطالية والثانية دبلوم من لجنة التحكيم. ولم يحصل شريط "آخر النهار" للمصري أحمد ماهر على أية جائزة على رغم موضوعه وأسلوبيته الخارجة عن المدرسة السينمائية العربية. وفي فقرة الفيديو التي تم استحداثها، حصل شريط الفيديو "روستوف - لاوندا" للموريتاني عبدالرحمن سيساكو على الجائزة الأولى، ونوهت لجنة التحكيم بنصاعة وصدق موضوعه الانساني. وقدم سيساكو أيضاً شريطاً قصيراً باسم "صبرية". وأفردت حلقة دراسية تناولت السينما التونسية وعنوانها "من الواقع اليومي الى العالمية، طموح السينما التونسية". اضافة الى فقرة "الاستعادة" لالقاء الضوء على أبرز اشتغالات المخرجين التونسيين، وتم عرض نماذج منتقاة منها من بينها "سجنان" لحمودة بن حليمة و"التقاطع" لمحمود بن محمود و"ريح السد" لنوري بوزيد و"حلفاوين" لفريد بوغدير. وخصت هذه الدورة أفلام الشتات الافريقي بفقرة. ويقصد بها تلك الأفلام المنتجة في أميركا. وكان من المفترض ان تفتتح ميريام ماكيبا، الناشطة السياسية والمغنية الجنوب افريقية، لولا عدم حضورها وعبر شريط "ماما" لمواطنتها فيرونيك باتي دومبي. كلمات الختام جددت العزم على هذا اللقاء السنوي، بعد ان بلغ هذا "الطفل" من العمر ثماني سنوات، ما يجعله أكثر وعياً وثقة بنفسه وبما يحيط به من مستجدات وتحديات على صعيدي الانتاج والتوزيع السينمائيين.