أياً تكن النتائج النهائية التي سيسفر عنها التحقيق في اغتيال المسؤول العسكري لحركة "حماس" محيي الدين الشريف، فإنها لن تحجب الاسلوب الخاطئ الذي استخلصته السلطة الفلسطينية في معالجة هذه القضية. بدت أجهزة الأمن الفلسطينية في عجلة من أمرها لإثبات أن إسرائيل لا تتحمل أي مسؤولية في عملية الاغتيال، وقفزت إلى هذه النتيجة الحاسمة حتى قبل أن يتجاوز التحقيق الذي يجريه محققوها الأمنيون مرحلته الأولية، وهو أمر يدفع إلى إثارة الشبهة أكثر مما يساعد في خلق قناعات ثابتة، محددة، كتلك التي تريدها السلطة، وأكثر مما يلغي المخاوف من ردود الفعل المحتملة، في حال ثبوت العكس. قد يكون لهذه العجلة المفرطة دوافعها السياسية، المفهومة، الناشئة عن الخوف مما تختزنه الذاكرة وما يبرزه الواقع الراهن في آن، من تداعيات العمليات الانتحارية التي نفذتها حركة "حماس" في مدينة القدس منتصف العام الماضي وأدت إلى توقف عملية التسوية السلمية منذ ذلك الوقت. لكن الذين فكروا في القضية على هذا النحو لم يقيموا وزناً للجانب الآخر من المشكلة وهو انعكاس هذا الاسلوب في المعالجة على الجانب الفلسطيني نفسه، أي على علاقة سلطة الحكم الذاتي بحركة "حماس" من جهة، وعلى تماسك الموقف الفلسطيني عموماً، من جهة أخرى. وفي هذا الجانب الرئيسي من الموضوع سجلت ملاحظات عدة: - الأولى كانت من الدكتور حيدر عبدالشافي، المعروف عنه حياده وموضوعيته ونزاهته، حين قال إن السلطة "لم تتصرف كسلطة وطنية وإنما تصرفت باعتبارها خصماً سياسياً لحركة حماس وتريد ان تكيد لها أو تنتقم منها. إذ أن دورها، كسلطة وطنية، يحتّم عليها التحلي بأكبر قدر من المسؤولية، بصرف النظر عن الاعتبارات الحزبية الجانبية، حتى ولو كان ما تقوله أجهزتها الأمنية صحيحاً، وهو أمر بدا من المبكر جداً الحسم فيه، أو بناء أي موقف رسمي عليه". - والملاحظة الثانية صدرت عن رئيس الدائرة السياسية في منظمة التحرير الفلسطينية فاروق قدومي، حين أكد أن عملية اغتيال محيي الدين الشريف، وهو أحد المناضلين البارزين، بصرف النظر عن الأوصاف التي تطلقها إسرائيل عليه وعلى أمثاله، إنما "تؤكد ضعف الأمن داخل الأراضي الفلسطينية، وأنه لا بد للسلطة الفلسطينية أن تناقش هذه القضية بكل وضوح". وأضاف قدومي: "هذه العملية تشير إلى أن هناك اختراقاً في الجهاز أو الإطار الأمني الفلسطيني المفترض فيه أن يحافظ على أمن المواطنين المناضلين". وأكد قدومي أنه "مهما كانت الاعتبارات، فإن الذي له مصلحة في الاغتيال هي إسرائيل، التي تتحمل مسؤولية مباشرة أو غير مباشرة في هذه العملية". وكلام قدومي لا يعكس أي ميل أو رغبة في ترجيح اتجاه قضائي معيّن يتعلق بتحديد المسؤول المباشر عن تنفيذ عملية الاغتيال، لكنه يؤكد، في الوقت نفسه، على أمور جوهرية ثلاثة: الأول ضرورة تشكيل لجنة تحقيق فلسطينية ذات صدقية وتحظى بثقة كل الفلسطينيين، على أن تشارك فيها عناصر من حماس "التي ينتمي إليها الشريف، لأن حماس جزء من الحركة الوطنية الفلسطينية التي تكافح ضد إسرائيل". والثاني هو المسؤولية المعنوية والمادية التي تتحملها السلطة الفلسطينية عن كل ما يحدث في مناطق الحكم الذاتي، ما يعني إبداء الحرص على عدم تعريض الأمن الفلسطيني والوحدة الوطنية الفلسطينية لاخطار الاختراق الخارجي، والإسرائيلي خصوصاً. والأمر الثالث هو تأكيد حقيقة أن إسرائيل تظل المستفيد الوحيد من أي عملية اغتيال يتعرض لها أي مناضل فلسطيني، بصرف النظر عن انتمائه الحزبي. وصدرت ملاحظات عدة من مصادر فلسطينية مختلفة تعبّر عن الاستغراب، وأيضاً القلق، من الطريقة التي تعاملت بها السلطة الفلسطينية مع المشكلة، من دون ان يعني ذلك تأييد هذا الاحتمال أو ذاك في شأن المسؤولية عن عملية الاغتيال، وإن كانت الآراء تتفق كلها على أن إسرائيل هي الوحيدة صاحبة المصلحة في عملية اغتيال الشريف، وفي أية عملية أخرى مماثلة، أياً تكن أداة التنفيذ. وإذا كانت قضية اغتيال الشريف ومضاعفاتها تثير هذا القدر من المخاوف والاحتمالات الخطرة بالنسبة للوحدة الفلسطينية ولمستقبل القضية الفلسطينية عموماً، فلأن الساحة الفلسطينية معرّضة لمواجهة مثل هذه الاختبارات القاسية دائماً. ولكن كيف سيكون الوضع عندما تجد السلطة الفلسطينية نفسها في مواجهة موقف دولي معيّن يتأسس على نوع من الانحياز لإسرائيل، ويطالبها هي، أي السلطة الفلسطينية، بمزيد من الاجراءات الأمنية لإثبات قدرتها على ضمان أمن الدولة العبرية وتقديم الأدلة الحسية على ذلك، تحت شعار مكافحة "الارهاب"؟! ولعل التصريح الذي أدلى به رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتانياهو في أعقاب مقتل الشريف وقال فيه "إن السلطة الفلسطينية تملك القدرة على مكافحة الارهاب عندما تريد"، يكشف عن حقيقة الدور الذي يراد من السلطة الفلسطينية أن تلعبه، وهو ما يجري التركيز عليه يومياً، من قبل الحكومة الإسرائيلية وبعض الوسطاء الدوليين، إلى حد جعله العنصر الأساسي في قضية التسوية السلمية، بدلاً من ان يكون الاحتلال الإسرائيلي والتوسع الاستيطاني اليهودي هو المسألة الجوهرية. أكثر ما يثير القلق لدى من يعنيهم موضوع التسوية السلمية، فلسطينياً وعربياً، هو ان يفعل التحريض اليومي فعله لدى السلطة الفلسطينية فترضخ للضغوط، المتعددة المصادر، التي تمارس عليها من دون هوادة. ولا بد من الاعتراف بأن الحكومة الإسرائيلية استطاعت عبر اسلوب المساومة الذي تستخدمه بفعالية، لا ان تخفض سقف الحقوق الفلسطينية إلى ما دون الحد الأدنى، حتى لدى بعض الوسطاء الدوليين الذين يهمهم انجاز أي اتفاق مهما كان مضمونه، بل وأن تظهر الجانب الفلسطيني وكأنه يتحمل وحده المسؤولية عن وصول التسوية السلمية إلى طريق مسدود، وذلك بذريعة عدم تنفيذ التزاماته في المجال الأمني. وهذا النجاح الإسرائيلي لا يتبدى فقط في المواقف المتعنتة لحكومة نتانياهو، وإنما تعكسه أيضاً العروض الدولية، لا سيما الأميركية منها، التي تخفض نسبة الانسحاب من الضفة الغربيةالمحتلة بصورة تدريجية حتى تستقر عند الرقم الإسرائيلي في نهاية الأمر، مع انحسار الكلام حول وقف الاستيطان، وبعد تبدّل مفهوم الاستيطان نفسه من قضية غير شرعية إلى مسألة قابلة للتفاوض باعتبارها تعيق العملية السلمية، ليس إلا. ومع ذلك فإن الثمن الذي تطالب به الحكومة الإسرائيلية، على الصعيد الأمني خصوصاً، كمقابل لما تعرضه وهو دون الحد الأدنى، يبلغ درجة تحويل دور السلطة الفلسطينية من سلطة وطنية إلى قوة حراسة للأمن الإسرائيلي، مع كل ما يترتب على ذلك من نتائج على مستوى الداخل الفلسطيني وعلى علاقات القوى السياسية الفلسطينية. لهذه الاعتبارات يبدو القلق الذي عبّرت عنه أطراف فلسطينية وعربية عديدة بسبب ملابسات قضية محيي الدين الشريف، قلقاً مشروعاً ومبرراً ويحتاج إلى جهد استثنائي من السلطة الفلسطينية لتبديده، بدل إضافة عناصر أخرى من الشك إليه. وإذا كانت السلطة الفلسطينية ارتكبت أخطاء فادحة في معالجة هذه القضية حتى الآن، فإن الوقت لم يفت بعد على محاولة استعادة قدر من الصدقية والثقة، بها أولاً وبأجهزتها الأمنية ثانياً. وهذا لن يتحقق إلا من خلال تشكيل لجنة تحقيق رسمية تضم شخصيات فلسطينية موثوقة وتضع يدها على ملف القضية. إلى أن تعلن النتائج النهائية للتحقيق، ينبغي على كل الجهات المعنية وقف التراشق الاعلامي، فضلاً عن مظاهر التجاذب الأخرى، تجنباً لاعطاء إسرائيل مزيداً من أوراق الضغط على الموقف الفلسطيني.