تحل هذا العام الذكرى الخمسون للنكبة الأليمة كما حلت في العام الماضي الذكرى الثلاثون للنكسة المحزنة والذكرى الثمانون لوعد بلفور. هذه الذكريات وغيرها جعلت العرب يدركون بأن القرن العشرين بأكمله تميز بانعدام قدرتهم على رسم الخريطة الجيوسياسية للوطن الذي يعيشون فيه. فعندما قامت دولة اسرائيل على أرض فلسطين العربية اكتملت الصورة واكتملت معها الرسالة التي وجهتها الدول الكبرى الى العرب: إن المنطقة العربية لم تعد ولن تعود عربية بحتة إذ زرع فيها كيان غريب يشكل مجرد وجوده عامل قهر وإحباط لأمة باتت ترى أحلامها وتطلعاتها تنهار. ترى هل تغيرت هذه الصورة وهل أضيف إليها شيء يبعث على التفاؤل ويقنع العرب والشعب الفلسطيني بشكل خاص بضرورة إعادة النظر في رؤيتهم الى هذا الواقع؟ لقد قيل للعرب ان هذه الرؤية تجاوزها الزمن وهي تعبر عن عجزهم على تطوير فكرهم في التعامل مع المتغيرات الدولية. ثم جاءت عملية السلام لتعطيهم "الفرصة التاريخية" للتعبير عن موقف "عصري" من اسرائيل، وهمس لهم البعض بأن هذه الفرصة ليس من شأنها القبول بشرعية الدولة العبرية فحسب بل انها تتيح للعرب التعرف على عدوهم واكتشاف حداثته واستلهام نموذجه سواء في مجال النظام السياسي أو في مجال القدرات الاقتصادية والتكنولوجية. وطلب من العرب في الوقت نفسه ان يبدوا تفهماً تاماً لمخاوف اسرائيل وهواجسها الأمنية، وان يتعاملوا معها كأنها كيان جريح يعاني صدمة نفسية وبحاجة لمعاملة خاصة ولمبادرات تطمئن الشعب الاسرائيلي باستمرار. ولكن هل تغيرت الدولة العبرية منذ نشوئها؟ وهل كان العرب على صواب في دخولهم عملية السلام معها؟ تعتبر الذكرى الخمسون لقيام الدولة العبرية فرصة ملائمة لإلقاء نظرة جديدة على هذه الدولة من جانب المثقفين اليهود بشكل خاص. فعملية السلام بما فيها من عيوب، وان عجزت عن تحقيق شيء ايجابي يذكر، منعت هؤلاء المثقفين من تقويم الحصيلة النهائية لدولة عاشت مدة خمسين عاماً في جوار معادٍ يشكل خطراً دائماً. فالواقع ان اسرائيل عاشت فعلاً أربعين عاماً في جو من العداء العربي ولكنها واجهت في السنوات العشر الأخيرة تجربة جديدة تمثلت في اليد الفلسطينية الممدودة منذ قرارات المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر عام 1988، وكذلك اليد العربية الممدودة منذ مؤتمر السلام في مدريد. فماذا فعلت اسرائيل بتلك اليد الممدودة؟ لقد تجاوبت نسبياً مع رغبة السلام العربية خلال فترة محدودة وحققت تقدماً متواضعاً في هذا السبيل، ولكن ما أن جاء القادة الحاليون حتى انقلبوا على مسيرة السلام وأجهضوا العملية الى حد بعيد في محاولتهم جعل الذكرى الخمسينية مناسبة لاحتفالات تمجيدية لانتصارات اسرائيل وقدرتها على البقاء. يهود الشتات جميعهم يعرفون، وان كان بعضهم لا يعترف بذلك علناً، ان المسألة لم تعد مسألة البقاء في جوار معادٍ، لأن أعداء اسرائيل قد تخلوا عن العداء وهم يرغبون في دخول تجربة جديدة. ومن هنا برز الى الوجود جدال جديد يطرح تساؤلات لم نسمع بها من قبل في أوساط الشتات اليهودي: ماذا أنجزت اسرائيل؟ ماذا حققت من ابداعات؟ بماذا تميزت في مجالات الثقافة أو الفنون أو الآداب؟ أي عطاء قدمت للانسانية؟ أين هو ذلك "الرجل الجديد" الذي تزعم انه ولد في اسرائيل؟ لقد كان الحلم ان تتميز الدولة العبرية بقيم العلمانية والحداثة والانسانية، لكن الواقع ان الشيء الاستثنائي الوحيد الذي حافظت عليه الدولة العبرية هو المعاملة الخاصة التي تحظى بها من جانب الدول الكبرى وذلك بفضل الجاليات اليهودية الناشطة في هذه الدول. ولكن خمسين عاماً من الحظي بمعاملة الطفل المدلل ألا تعطي الحق للمدلل بكسر الميم في ان يحاسب طفله وقد بلغ سن الكهولة؟ لا يزال العرب يعتبرون ان دولة قامت على اسطورة هي عبارة عن مجتمع قائم على أكذوبة. ولكن فضح هذه الأكذوبة كان مستحيلاً لعقود طويلة حتى جاء ذلك من صميم المشروع الصهيوني، أي من أولئك الذين صاغوه وخططوا له في الشتات منذ مؤتمر بازل عام 1897 حتى عام 1948. فالتحام المجتمع اليهودي، وبناء اسطورته لم يكن ممكناً الا على اساس فكر واحد... وهكذا كانت الصهيونية فكراً موحداً لأن طبيعتها المركبة، إن لم تكن اصطناعية، فإنها لم تكن تحتمل تعدد الآراء والنقاش الموضوعي. اسرائيل لم تتغير ولكن ماذا جرى للفكرة الصهيونية بعد خمسين عاماً؟ اسرائيل تتابع استراتيجيتها التوسعية وتجدد يومياً الرسالة نفسها: لا مكان لوجود فلسطيني ليس على الأرض فحسب، وانما، وهذا هو الأخطر، في أذهان القسم الأكبر من الشعب الاسرائيلي. فاسرائيل تدفع الفلسطينيين بعيداً بتوسعها الجغرافي على الأرض العربية وتدفعهم الى أبعد من ذلك بتطورها الداخلي وتطور مجتمعها وطبيعة الدولة نفسها. فالمستوطنون يشكلون في نظر جزء كبير من الشعب الاسرائيلي ولدى جميع قيادات اليمين نوعاً من الامتداد والتجسيم للهوية الحقيقية لاسرائيل. إن مصدر القلق الحقيقي اليوم هو انه أصبح من المستحيل وضع خط فاصل مميز بين المستوطنين وبقية المجتمع الاسرائيلي. فمشكلة المستعمرات ليست فقط عبارة عن "مشكلة صعبة الحل" وانما هي في نظر العرب، والى ان يثبت العكس، تشخيص لطبيعة الهيمنة والرفض الكامنة لدى الدولة الاسرائيلية. وبالتالي فهذه الأخيرة عادت الى وضع العدو المجرد والمتوحش في آن، الذي كانت عليه قبل اتفاقات اوسلو. على ان هنالك تعايشاً بين حقيقتين متناقضتين في اسرائيل: الأولى هي ان قسماً من المجتمع الاسرائيلي، يصعب تحديد أهميته أو نسبته، قد تطور في نظرته الى العرب وصار يعي حقيقة الوجود الفلسطيني ويبدي استعداداً لقبول مساومات براغماتية للتعايش معه. والحقيقة الثانية هي ان مفهوم الدولة مع تركيبتها الايديولوجية وخلفيتها التاريخية تجعل اسرائيل عاجزة عن مواكبة تطور المجتمع، بل تقودها الى سدّ الطريق أمام كل تطور. فلقد برزت الفكرة الصهيونية ونمت في المحيط الأوروبي في نهاية القرن الماضي "وسط عالم مؤلف من كيانات وطنية ملأى بالعنف والارتياب... عالم ليس فيه أي تسامح ديني، يشكل فيه أي اختلاف أو تميز عن الآخرين عبئاً ثقيلاً... عالم لا يعرف الفصل بين الدين والمجتمع... لم يكن للصهاينة أي ايديولوجية سواء كانت اشتراكية أو خلاف ذلك، فديكتاتورية الشعب العبري، حسب تعبير بن غوريون كانت الهدف الأوحد"** واذا ما تبيّن ان اسرائيل لم تتغير، بعدما اعتبرنا ان الدخول في عملية السلام معها كان الخيار الأفضل بالنسبة الى العرب والفلسطينيين، فهل نستنتج من ذلك انه يجب على العرب المضي في هذه المحاولة العبثية؟ هنا لا بد من التذكير بأن عملية السلام لا تعتبر تنازلاً من جانب العرب، ولا كان توقيع اتفاقات اوسلو، على ما فيها من عيوب، مجرد تنازل وتفريط من جانب الفلسطينيين... بل انه كان مجرد وسيلة لوضع المجتمع الدولي أمام مسؤولياته التاريخية... وهو شكل تحدياً لاسرائيل نفسها اذ قدم لها مرآة تتأمل فيها وجهها الحقيقي. ختاماً، فإن السلام ليس فقط عبارة عن تنازلات من هذا الجانب أو ذاك، وانما هو قبول متبادل من طرف بالطرف الآخر، وإدراك المجتمعات العربية ان اسرائيل قد رسمت في أذهان حكامها حدودها الحقيقية قبل ان ترسمها على الأرض. من كتاب المؤرخ الاسرائيلي سترنهل: أصول اسرائيل: قومية أم اشتراكية؟