تعرض صالة "تانتوروري" الباريسية حتى آخر الشهر الجاري مختارات من تصاوير ضياء العزاوي ومحفورات رافع الناصري. سبع مربعات للأول منجزة عام 1998 الواحدة في خمس نسخ، ومحفورات معدنية ثمانية للثاني انجز أغلبها عام 1994 الواحدة في عشر نسخ. يبشّر الأول بتنزيه الاشارة واللون واعتلاء مدارجهما العرفانية، وتتناسخ العوالم البخارية للثاني من "الشامانية" البوذية الممجّدة للطبيعة والآفاق "الايكولوجية" التاوية. وتمثّل مسيرة الفنانين العراقيين المشتركة رفقة درب تعود الى استهلالات السبعينات في بغداد، أي الى الفترة التي اجتمعا فيها الى جانب علي طالب ومهرالدين وسمرجي والترك وآخرين في جماعة "الرؤيا الجديدة"، ينتهلان من خزائن ذاكرة الاشارات والعلامات والأوشام والحروف والزخارف والأعداد، ناهيك عن المقامات اللونية المشرقية على غرار قزحيات سيراميك عشتار والكاظمية بابل والفن الاسلامي. تتكامل مربّعات العزاوي مع دوائر الناصري، اختار الأول سبع نوافذ جصّية ملونة تحولات على تربيعات قريبة من وحدات السيراميك بقياس 30 سم تقريباً، وعرض الثاني تكورات محفورة على المعدن متناغمة مع قياس الأولى. يقع المربع والدائرة في الحالين بين صيغة المفردة الهندسية والشكل العضوي، يصدر هذا الأخير عن عفوية تنفيذ الجص صبّه ونحته، ومن تلقائية ارتشاف الورق لدائرة أحبار الطباعة. يتجاوز استقلال خصائص كل منهما الأسلوبية هذه القرابة العامة، ففي الوقت الذي تبدو فيه أعمال العزاوي أقرب الى النحت بسبب تعددية مستوى السطوح، فإن تقنيّة الحفر المعدني لدى الناصري تعتمد على التبادل بين الغائر والنافر. تعتمد تربيعات العزاوي على مبدأ التصوير او النحت الملون الأحادي لكنها تنتهي بتناسخ القالب الجصّي في الهيكل الخشبي خمس مرات منجزةً باليد. لكن زميله يمر الى المحفورة المتعددة النسخ عشر مرات بعكس الاتجاه بحيث ينهي كل طباعة بلمسة يدٍ حّرة بألوان الغواش، أي انه يستيعد في المرحلة الأخيرة روح الندرة التي اختص بها التصوير. يجتمع الاثنان حول تحقيق تعددية النسخ ضمن سلسلة من الأعمال الفنية غير المتماثلة، وذلك بتجنّب الاستسلام الكامل لآلية النسخ. يعرض العزاوي تجاربه المنحوتة التي ظلت حبيسة مختبره اللندني، الحافل بنماذج غير معروفة من الفخاريات المعالجة بألوان "الاكريليك" بعد شيّها. تبدو التربيعات المعروضة أشد براءة من التعقيدات التقنية، فهي تستعير اللهو الطفولي باللون الذي مارسه جماعة "البوب"، لكن البساطة في اختيار الألوان لا تخفي شدّة رهافتها وذكاء انتساباتها، بحيث يأخذ الاختزال التجريدي هيئة مقاطع جزئية من تشكيلاته "البانورامية" المألوفة. تتلاقح في خرائطها: بنائية "المينماليزم" الهندسي، مع ألاعيب هندسة المقرنص، تتداخل في هذا التوليف الفراغي الأطروحة البصرية مع نقيضها، بحيث لا يمكن فصل فراغ الجدار الأبيض عن بؤرة تجمّع المسطحات الصباغية، وضمن تداخل ادراكي دائم ما بين الأمام والخلف، الشكل والأرضية. تحمل التحولات السباعية الوجدانية على المربع الشرقي عنواناً مجازياً: "زيلليج مغربي"، وعناوين افرادية، مؤكدة انتسابها العربي - الاسلامي على غرار: توريق وتكسيره، زنّار وضفيرة الخ… وتمثل خماسية من محفورات الناصري بدورها تحولات على عنوان قريب: "المجموعة الشرقية" تجمع حساسيتي الحفر على المعدن والخشب في آن مع تدرجات أحبار الاسطوانة المعدنية داخل مشهد آفاقي ممتد يشبه صورة الكوكب الأرضي. إذا اختزل العزّاوي تكويناته "المينيماليست" الى حالها المجهرية، فهي امتدت لدى الناصري بقياس فلكي، لكن ايحاء الأول - مع ذلك - لا يخلو من النصبية، كما يستعيد الثاني الحالة البخارية في تشكّل الكون، بحيث تبدو الأحداث وكأنها تجري في بؤرة سديمية ممغنطة او بالأحرى في "محرق الوجود". يتحالف مربّع الأول مع دائرة الثاني في الخروج من الصيغة التقليدية "للوحة الحامل"، بحيث يسترجعان تحالفهما العريق مع حساسية المحترف العراقي منذ الستينات.