خل بالك من نفسك يا ولدي، احذر أن يستهزئ بك الناس بما أنك طفل صغير لا راح ولا جاء بعد، كن رجلاً وإن كنت كعقلة الأصبع، الرجولة ليست بالطول ولا بالعرض بل بالعقل والكلام الموزون والسلوك الحسن والجدعنة والجرأة في الحق. لعلك تذكر ما أوصيتك به من قبل مراراً وتكراراً، لكن يستحسن أن أعيده عليك الآن وأنت متوكل على الله كي تضعه حلقاً في أذنيك كلمة كلمة. شف يا حبة عيني، ستمشي على قدميك من هنا لمحطة البكاتوش مسافة قصيرة لا تزيد على ستة كيلو مترات، من محطة البكاتوش تركب القطار الآتي من قلين، سيفوت القطار على محطتين اشباس الشهداء وسنهور، المحطة الثالثة هي دسوق، فيها تنزل من القطار، تمشي مع الناس على الرصيف، تطلع السلم العالي معهم، في آخر الممشى الشبيهة بالكوبري تنزل، تلقى بوابة حديدية يقف أمامها واحد أفندي في يده كماشة، لا تخف منه حين يعترض طريقك، اعطه التذكرة التي قطعها لك الكمساري في القطار فيتركك تخرج. بمجرد خروجك من البوابة تتجه إلى شباك قطع التذاكر المجاور لها على اليسار، تسأل ناظر المحطة القاعد خلف الشباك "متى يجيء القطار الذاهب الى فوه؟"، يقول لك "بعد قليل، اعطه القروش الثلاثة وقل له: هات نصف تذكرة لفوه"، يعطيك ورقة خضراء سميكة طول أصبعك مبططة، ضعها في جيبك واحرص عليها مثل عينيك، احذر أن تشد المنديل من جيبك فتوقعها في غفلة منك فتكون الكارثة، عد إلى البوابة التي كنت قد خرجت منها، قدم التذكرة للأفندي ذي البدلة الصفراء الواقف بباب السلم، سيأخذها منك يعضها بالكماشة ويردها إليك، دسها في جيبك وكل حين تتحسسها لتطمئن على وجودها، واحذر أن يحتك بك أحد أو تحتك أنت بأحد، تصعد السلم وتمشي فوق الكوبري وتنزل على الرصيف الثاني المقابل للرصيف الذي نزلت عليه منذ قليل. القطار الثاني الذي ستركبه سيجيء من عكس السكة التي جاء منها القطار الأول، اسأل قبل أن تركب "هل هذا هو القطار الذاهب إلى فوه؟"، فإن قيل لك "نعم" تركب، احذر أن تركب والقطار ماشي، احذر أن تنحشر في زحام المندفعين إلى باب القطار، الحق بالباب الذي لا زحام عليه فإن لم تجد فانتظر حتى يركب المتعجلون وامسك بحديد الباب واصعد على مهلك وانظر جيدا قبل أن تضع قدمك، ضعها بهدوء حتى لا تنزلق في الفراغ بين الرصيف والقطار، اختر كرسيا بعيدا عن الباب وعن الشباك فإن لم تجد كرسياً خالياً فقف وسط العربة بين صفوف الكراسي، لا تأمن لمن ينظر لك في نعومة ويسألك "ما اسمك يا شاطر؟ من أي بلد أنت يا شاطر؟ في أي محطة ستنزل يا شاطر؟". اجبه بكل رجولة ولكن لا تأمن له. حين يمر الكمساري ببدلته الشبيهة ببدلة العسكري قدم له التذكرة، سيعضها بالكماشة ويعيدها اليك، ضعها في سيالتك بحرص لأن المفتش قد يمر بعد قليل ويطلب رؤيتها، ضع عينك في وسط رأسك عند كل محطة وإلا فاتتك المحطة فيطوقك الكمساري بفلوس مضاعفة ويسلمك للعسكر لأنك ليس معك ثمن التطويق. تبص من الشباك حينما يهدئ القطار سرعته وهو داخل إلى المحطة، لتقرأ اللافتة التي ستراها تجري أمامك على الرصيف بسرعة يعني لازم تقرأها بسرعة، ستقرأ على اللافتات محطات، قبريط، محلج مالك، السلمية، يعني ثلاث محطات خل بالك، الرابعة هي فوة، عندها تنزل، ستجد رصيفا بلا سلم كدسوق بلا بوابة، منه للخلا على طول، امض مع الناس حيث يتجهون بحزاء النهر نحو المباني العالية ذات القباب والمآذن الكثيرة تملأ سماءها. تواصل المشي في الطريق المرصوف الواسع على جانبيه الأشجار والمقابر، لا شأن لك بهذه ولا بتلك ولكن خل بالك من الأتومبيلات التي تجري في هذا الطريق بسرعة. أول حودة على اليمين تدخلها تجد شارعاً طويلاً عريضاً كله دكاكين وجوامع وبيوت عالية، تلزم الجانب الأيمن للشارع، تفوت أول حارة، وثاني حرة، في الثالثة تدخل، تجد على ناصيتها دكان بقالة مكتوباً على واجهته اسم صاحبه: محمدي الشبيه. ادخل الدكان، قل "سلام عليكم" يرد عليك السلام أو لا يرد هو حر فالمهم أنك عملت الواجب، قل للبقال "من فضلك يا عم محمدي اين يوجد بيت أبو شكري؟"، إن قال لك "من تكون بالنسبة له؟" قل له "أنا ابن بنت زوجته"، سيقول لك "هو رابع بيت على اليمين وأنت داخل"، لازم أن تسأله خل بالك، لا ليدلك على البيت فها أنت ذا قد عرفت وصفه، وإنما ليقول لك إن كانت ستك في البيت أم ذهبت إلى سوق الخضار تتسوق الأكل، فإن كانت في السوق فإنه يبقيك عنده حتى تجيء هي وتمر عليه في طريقها لتأخذ أصناف البقالة اللازمة لها، في البيت - مع ستك - يسكن ابن زوجها الجزماتي بزوجته واطفاله واخته بزوجها تاجر النحاس القديم واطفالهما لكنهم جميعا في الطابق الثاني للبيت فإن أنت ذهبت إلى البيت وستك غير موجودة فيه ستدعوك إحدى المرأتين للانتظار عندها وحينئذ ستجرك في الكلام حتى تعرف منك لماذا جئت وماذا تريد من ستك؟ ستلفك وتطويك - فكلتاهما أروبة نابها زارق - ولن تهدأ حتى تعرف كل شيء عن أحوالنا في البلد وعند اللزوم تعاير ستك بنا، فالأحسن ألا تذهب إلى البيت إلا وستك فيه. ستجد ستك في البيت وحدها لأن زوجها خادم مسجد سيدي أبو النجاة المبني في قلب النهر يقضي النهار كله أمام المسجد يشتغل في صنعته الأصلية كنجار متخصص في صنع الضبب الخشبية التي نغلق بها الأبواب. ستك سيطلع عليها البلاء بمجرد رؤيتك، طبعا، ستظن أن كارثة ألمت بنا جميعا، طمئنها في الحال، قل لها إننا جميعا بخير والحمد لله لا ينقصنا إلا رؤيتها، ستندهش من مجيئك في القطار وحدك، ستسألك "لماذا جئت يا حبيبي وحدك هل أنت طفشان؟"، قل لها "أمي تسلم عليك وتدعو الله أن يسترك ولا يحوجك لمخلوق"، قل لها "أمي تقول لك إنني نجحت في اختبار مدرسة البندر وسألتحق بها مع أولاد الناس الطيبين كما كنت تحلمين"، ستفرح طبعاً وربما تزغرد، قل لها "مدرسة البندر تطلب مني بدلة وطربوشاً وحذاءً وأبي يدبر أكلنا بطلوع الروح فخذيني يا ستي لسوق الكانتو واشتري لي البدلة والطربوش والحذاء بأي شكل". ستشوح في وجهك بحسرة قائلة "منين؟ هو انتوا مخليين ورايا حاجة؟ اللي بتعمله النملة في سنة ياخده الجمل في خفه ويطير"، وربما بكت وهمت بشق ثوبها، لكن اطمئن، هي لن تتركك ترجع الا مجبور الخاطر، ستأخذك إلى سوق الكانتو وتشتري لك البدلة والطربوش والقميص الأفرنجي مع الجورب، ستفوت على قريبها عبدالفتاح الطنطاوي العتقي الذي يرتق الأحذية القديمة ويلمعها ويبيعها بثمن رخيص يقدر عليه الفقراء أمثالنا، أمثالنا يا ولدي لا يصح أن يلبسوا الجديد لغلو ثمنه وإذن فنصف العمى خير من العمى كله، القديم الملبوس سابقاً لا غبار عليه ما دام متيناً. بعد أن تشتري لك طلباتك صف لها ما نحن فيه لعلها تعطيك كوبين ثلاثة من الرز الأبيض وبرطماناً من السمن وحفنتين من الفاصوليا الناشفة، أنا متأكدة سوف تفعل، ولا بد أنها ستغمزك بعشرة قروش لكي تدفع منها ثمن تذكرة القطار وأنت عائد، الباقي عليك أن تعطيه لي بمجرد عودتك لأرد القروش التي استلفتها لك الآن ثمنا لتذكرة القطار، ربنا معك يا ولدي، تروح وتجيء بالسلامة يا حبة عيني. * كاتب مصري.