يتابع صندوق النقد الدولي بعناية فائقة تطورات أسعار النفط في الأسواق العالمية لتقويم الآثار التي يخلفها التراجع الكبير في الأسعار على الدول المنتجة. ويقول متحدث باسم هذه المؤسسة المالية الدولية التي تتخذ من واشنطن مقراً لها، ان حسابات خبراء المؤسسة الاقتصاديين توحي بأن هذه الآثار كانت كبيرة خصوصاً بالنسبة الى المنتجين الذين يعتمدون كثيراً على العائدات النفطية في تمويل موازناتهم الحكومية. ويتوقع المراقبون ان يكون صندوق النقد الدولي مهتماً جداً بأسعار النفط في المستقبل المنظور وتأثير ذلك في كبار المنتجين في العالم. ويسبّب تراجع الأسعار اضطرابات في روسيا حيث ينفِّذ الصندوق برامجه. كما ان له برنامجاً آخر لا يستهان بحجمه في الجزائر، علماً بأن أكبر "صداع" يعانيه الصندوق الدولي حالياً هو اندونيسيا، العضو في أوبك، وأحد كبار منتجي النفط في آسيا. وكانت فنزويلا العضو في "أوبك"، وافقت على مضض على شروط الصندوق الخاصة ببرنامج مدته عام واحد انتهى العمل بموجبه الصيف الماضي. وقد يعتبر الصندوق الدولي مشاكل فنزويلا الاقتصادية الراهنة، التي فاقمها تدني أسعار النفط، مدخلاً لبدء برنامج آخر معها. ولا ترتبط المكسيك ببرنامج مع الصندوق الدولي لكنها ظهرت نهاية الأسبوع الماضي كمنتج رئيسي للنفط في العالم من خارج "أوبك"، علماً بأن المؤسسة المالية الدولية شاركت الى حد كبير في انقاذ الاقتصاد المكسيكي العام 1995 بعيد انفجار أزمة البيزو أواخر 1994. ومما يدل على ما يخلّفه تدني أسعار النفط من آثار سلبية، أهمية الاعتبارات الاقتصادية التي حملت المكسيك على مشاركة دول كبيرة منتجة للنفط من داخل "أوبك"، مثل السعودية وفنزويلا، في اتخاذ القرار المفاجئ نهاية الأسبوع الماضي بخفض الانتاج في محاولة لانعاش الأسعار والذي اقرته منظمة "اوبك" في اجتماعها الطارىء في فيينا اول من امس. ويقول المحللون ان التراجع الأخير في الأسعار يلحق ضرراً بالاقتصاد المكسيكي الذي لم يتماثل للشفاء تماماً بعد من أزمة 1994 - 1995. وينحصر الاهتمام حالياً في احتمال ان تتضرر الجهود الحثيثة، التي تبذلها المكسيك لاستعادة ثقة المستثمرين الدوليين بسبب تراجع الأسعار. ويقول رفائيل كيخونا، العامل في "شركة تمويل البترول" الاستشارية الناشطة في مجال النفط من واشنطن: "واجهت حكومة المكسيك ضرورة الاختيار بين خفض الانتاج أو مزيد من الخفض في الموازنة. وكان الأمر الأقل ايلاماً هو ما فعلته الحكومة". ويشير المحللون الى ان المكسيك استفادت على مدى عقدين من السياسات التي قلَّلت بموجبها من اعتمادها على النفط وعائداته لتنويع خياراتها على نحو لم يكن متاحاً ابان أزمة الأسعار عام 1986. لكن الأزمة الراهنة تؤذي الى حد كبير، اذ ان عائدات النفط تشكل نحو 40 في المئة من الموازنة العامة. وكانت الحكومة توقعت في كانون الثاني يناير الماضي خسارة نحو 1.7 بليون دولار السنة الجارية بسبب تراجع أسعار النفط، ما أدى الى خفض الموازنة اثنين في المئة. لكن تراجع الأسعار ثلاثة دولارات للبرميل أكثر مما كان متوقعاً حمل الحكومة المكسيكية على التفكير بخفض اضافي في الموازنة. وهو ما حصل الاثنين الماضي، بعد يومين فقط من "اتفاق الرياض" لخفض الانتاج، اذ خفَّضت الموازنة مرة اخرى بمقدار 1.05 بليون دولار. ويتضرر ميزان المكسيك التجاري في وقت تشهد وارداتها ازدياداً، ما خفض قيمة البيزو ورفع أسعار المواد الاستهلاكية. وتعوّل الحكومة المكسيكية على الاستثمارات الأجنبية لتغطية جزء كبير من العجز في الحساب الجاري المكسيكي الذي قد يبلغ 14 بليون دولار السنة الجارية. وتوقع مسؤولون ماليون مكسيكيون في وقت سابق هذه السنة ان يؤدي انخفاض أسعار النفط الى تراجع نسبة النمو الاقتصادي الى 4.8 في المئة بعدما كانت التقديرات تشير الى بلوغ هذه النسبة 5.2 في المئة. ولم يغيّر هؤلاء المسؤولون توقعاتهم الأسبوع الماضي، اذ شدَّد وزير المال جوزيه غوريا على ان بلاده تتخذ التدابير اللازمة لخفض موازنتها للحفاظ على الانضباط الضريبي، وهو ما يرضي المستثمرين الأجانب. وقال الوزير المكسيكي ان خفض الموازنة ضروري لضمان "عدم تبدد ثقة الناشطين في اقتصادنا". ويبدو المسؤولون المكسيكيون أكثر اهتماماً بمواقف الأسواق المالية الدولية من اهتمامهم بالآثار التي يخلفها تدني أسعار النفط على الاقتصاد المكسيكي. ويستبعد المحللون ان تشهد المكسيك أزمة مالية كتلك التي شهدتها عام 1994 عندما سحب المستثمرون الأجانب مبالغ طائلة من الرساميل القصيرة الأجل، ما أغرق النظام المالي الدولي في فوضى. وتملك المكسيك حالياً نحو 30 بليون دولار احتياطات في مصرفها المركزي. اما سعر البيزو فهو غير مقيَّد وحر ومستتب، اذ ان آليات التعديل والتكيّف التي "ابتكرتها" المكسيك تفعل فعلها. لكن المسؤولين المكسيكيين لا يستطيعون تجاهل السوق. ويقول كيخانو: "يتتبع المستثمرون بعناية فائقة أحوال دول أميركا اللاتينية الناشئة. فالشفافية لا يستهان بها ومواقف المديرين الأجانب وآراؤهم ذات أهمية كبيرة". ويعرب بعض المحللين عن قلقه من احتمال ان تواجه البلاد مشاكل خطيرة اذا لم ترتفع أسعار النفط بسبب افتقادها الى موارد اخرى تعادل في أهميتها العائدات النفطية كمصدر للتجارة الخارجية وللعائدات من العملات الصعبة. ويقول جون ليختبلو، رئيس مجلس ادارة مؤسسة "بتروليوم اندستري ريسيرتش فاونديشن"، الناشطة في مجال أبحاث النفط من نيويورك: "يتعيَّن على المسؤولين المكسيكيين التحرك بفاعلية لأن النفط ذو أهمية كبرى لهم". ويضيف ان الاقتصاد المكسيكي تهدد بشكل خطير بسبب تراجع الأسعار ما حمل المسؤولين المكسيكيين على التخلي عن حيادهم فيما اختلف أعضاء منظمة "أوبك" حول السياسة التسعيرية. وتابع: "لم يتمكن المسؤولون المكسيكيون من الانتظار مكتوفي الأيدي، لأن لديهم الكثير من الأسباب الوجيهة التي تحملهم على القيام بما يحمي بلادهم. فالعالم لا يعرف الا سعراً دولياً واحداً، يؤثر في حال تدنيه على منتجي النفط كافة". وتتأثر، فنزويلا أيضاً بتراجع الأسعار. لكن كيخانو يقول ان الحسابات الخاصة بفنزويلا أكثر تعقيداً من تلك الخاصة بالمكسيك لأن سياسة فنزويلا النفطية طويلة الأجل تعمل على الحصول على حصة معينة من السوق الدولية في المستقبل. ومن شأن موافقتها على خفض انتاجها التقليل من احتمال تحقيق هذا الهدف. ويضيف: "تغلَّبت حاجات فنزويلا القريبة الأجل على اهدافها البعيدة، ولهذا وافقت على خفض الانتاج على رغم ضآلة هذا الخفض 200 الف برميل يومياً من أصل 3.3 مليون برميل، وبناء عليه سيزداد دخل فنزويلا كثيراً اذا ازداد السعر عشرة في المئة". ويختلف المحللون حول ما اذا كان اتفاق خفض الانتاج سينجح لفترة طويلة، وحول ما اذا كانت المكسيك ستعود لتلعب دوراً يقول البعض انه كان تاريخياً اذ انها، كمنتج رئيسي للنفط من خارج "أوبك"، أخذت المبادرة للمرة الأولى سعياً وراء عقد اتفاق بين كبار المنتجين لخفض الانتاج. وكان مساعد وزير الطاقة المكسيكي ليوبولد غوميز قال لصحيفة "نيويورك تايمز" ان ما أقدمت حكومته عليه نهاية الأسبوع الماضي لا يعني انها تقترب من الانضمام الى "أوبك"، مضيفاً ان "كل ما نفعله هو اتخاذ قرار من جانب واحد وسيادي للمساهمة في جهود دولية تبذل لأنها تصب في مصلحتنا القومية". ويعتقد ليختبلو ان احتمال تدخل المكسيك مرة اخرى يبقى وارداً "اذ تحسَّن وضعها كثيراً عمّا كان عليه سابقاً ولهذا لديها أسباب عدة لبذل محاولات مشابهة اخرى… لكن المكسيك وحدها ليست لديها القوة للتأثير في الأسعار، ولا تستطيع ان تبدّل هذه الأسعار إلاّ بالتعاون مع آخرين. ولو أقدمت وحدها من دون مشاركة السعودية وفنزويلا عليه لواجهت الفشل". ولكن كيخانو يقول ان "من الصعب التكهن بذلك، لأن أحداً لا يعرف متى ستدعو الحاجة الى ذلك مرة اخرى. وفي اعتقادي ان الظروف فاجأتهم هذه المرة بدل ان يأخذوا المبادرة وان يكونوا في المقدمة. وما حدث ليس تبدلاً في الموقف أو سياسة جديدة".