عندما اجريت أول مقابلة لي مع الملك حسين في أوائل السبعينات كان السيد بلال التل في المدرسة الابتدائية يلبس "الشورت". وعندما اجريت آخر مقابلة مع عاهل الأردن قبل سنتين كان السيد بلال التل مديراً لمركز دراسات وأبحاث اسلامي في عمّان، بعيد عن القصر الملكي وهمومه واهتماماته. السيد بلال التل اليوم مدير دائرة المطبوعات والنشر في الأردن، وفي مثله قيل المثل "ملكي أكثر من الملك"، فهو يزايد في الدفاع عن الحكومة الأردنية على هذه الحكومة نفسها، ويخسر الأردن أصدقاء كل يوم بسبب طريقته في استخدام منصبه، أو رؤيته السلطات الموضوعة بين يديه بعين واحدة. مع وجود السيد بلال التل في دائرة المطبوعات والنشر منعت "الحياة" في الأردن حوالى 35 مرة خلال الأشهر الخمسة الأخيرة، مقابل أقل من 25 مرة خلال السنوات العشر الماضية. وبما ان موقف "الحياة" من الأردن لم يتغيّر البتة، ولم يدخل اليها محررون جدد أو يخرج منها محررون "أردنيو الهوى"، فإن الأكيد هو ان التغيير الوحيد الذي طرأ على علاقتها بالأردن هو السيد بلال التل. ومقارنة الأرقام وحدها لا تكفي، فعلى القارئ ان يتذكر ان "الحياة" وقفت ضد احتلال الكويت مئة في المئة، ومع ذلك حافظت على علاقتها مع الأردن، وخصوصاً مع الملك حسين، في أحلك الأوقات. ولم يؤثر التطبيع والاندفاع فيه بعد ذلك في هذه العلاقة، ومنعت "الحياة" ثلاث مرات في سنة، أو ست مرات في سنة اخرى، ضمن الحدود المتوقعة من بلد كان لپ"الحياة" دائماً وطناً ثانياً، حتى لا نقول وطناً بديلاً، ويجفل السيد التل مرة اخرى. على كل حال، قراء هذه الزاوية أهم من ان أشغلهم بموظف حكومة، لذلك أكمل قائلاً انه يفترض بعد ان سجلت الموقف السابق، ان أكمل بالطريقة الصحافية المعروفة فأنافق للملك حسين أو للحكومة الأردنية حتى أحمي موقفي. غير انني تعودت مع الملك حسين ان أصدقه القول، وهو أبدى دائماً سعة صدر، وعندما عرضت عليه في آخر مقابلة لي مع جلالته في قصر بسمان مخاوفي الشخصية والمهنية من التطبيع بين الأردن واسرائيل ردّ بما طمأنني. وكنت أتمنى لو انني استطيع ان اسجل هنا اليوم ما قال لي الملك في جلسة خاصة، غير انني لا أفعل. ما أقول الآن هو ان بقدر ما ان ثقتي بالملك حسين كبيرة، أو كاملة، فإنني لا أثق بحكومة ليكود في اسرائيل، وخصوصاً برئيس وزرائها بنيامين نتانياهو المتطرف العنصري. الأردن لم يجنِ شيئاً من السلام مع اسرائيل، سوى اتفاق على اقتسام الماء وبيع بعض الاسمنت، ولا تزال اسرائيل تغلق أسواق الضفة في وجه الصادرات الأردنية، مع انها امتداد طبيعي للتجارة الأردنية، وهي تفعل هذا مع علمها بالصعوبات التي يمر بها الاقتصاد الأردني الآن، فكأنها تريد خنقه، بدل ان تتصرف بنص معاهدة السلام وروحها، مع ان الأردن عزل مساره عن المسارين السوري واللبناني، وتراجع دوره العربي، وهو يضحي من اجل انجاح عملية السلام. وعودة محطة الموساد الى عمّان أمر مقلق آخر، وقد تبيّن ان عملاء الموساد لا يتورعون عن استعمال سلاح كيماوي في محاولة اغتيال في قلب العاصمة الأردنية. ولو افترضنا جدلاً ان الفضيحة المدوية التي تبعت محاولة اغتيال السيد خالد مشعل أنهت هذه الممارسة، فإنه يبقى ان محطة الموساد في السفارة الاسرائيلية في عمّان موجودة للتجسس على الدول المجاورة، أي العراق وسورية، اذا لم توجد للتجسس على الأردن نفسه. والنتيجة اليوم ان السلام مع اسرائيل لم يُجرِ انهار السمن والعسل، بل ان الوضع الاقتصادي للأردن كان أفضل قبل السلام، ولم تقم تظاهرات في معان أو الكرك، ولم يفرض حصار على أي مدينة أردنية أو بلدة. كيف يعالج أمثال السيد بلال التل هذا الوضع؟ هم يبطشون بالصحافة المحلية، ويحاولون الوصول الى الصحف القادمة من الخارج، لأنهم يعتقدون اعتقاداً ساذجاً ان عدم الكتابة عن المشكلة كفيل بحلها. في المقابل الملك حسين يحتضن المعارضين، ويصفح عنهم مرة بعد مرة، ويستمع اليهم ويصبر، كالإمام علي، صبرين: صبر على ما يكره وصبر عما يحب. وبما ان الملك حسين يحب "الحياة" فلا بد انه يكره ان تمنع 35 مرة في خمسة أشهر وهي منعت مثل هذه المرات أو أكثر في بلدان عربية أخرى، الا انه لا تربطنا بهذه البلدان ما يربطنا بالأردن لذلك لا نفاجأ بالمنع، بل نتوقعه. ولعله يأتي من يقول للسيد بلال التل ان الملك حسين سمح لپ"الحياة" بالطباعة في الأردن وجاء القرار الملكي الكريم، ونحن نعمل لبدء الطباعة في المغرب، وهو مشروع انتهينا منه الآن، ما يمكننا من بدء العمل للطباعة في الأردن كما وعدنا الملك، وقد انجز حرّ ما وعد.