بعد تعيين أفرايم هاليفي خلفاً لرئيس "موساد" داني ياتوم، أعرب بنيامين نتانياهو عن ارتياحه الى قرار قال انه سيوقف الانهيارات التي تعرض لها أهم الأجهزة الخمسة المعنية بسلامة أمن اسرائيل. ووجد زعماء "حزب العمل" في هذا التصريح مادة للانتقاد بحجة أن توقيت قرار عزل ياتوم كان يجب أن يُتخذ فور فشل عملية اغتيال خالد مشعل في عمان أيلول/ سبتمبر 1997. خصوصاً ان الأردن لم يكتف باطلاق سراح الشيخ أحمد ياسين، بل طالب بإقالة رئيس "موساد" كعقاب لاستغلال وجود السفارة الاسرائيلية في عمان وتحويلها الى وكر للتآمر ضد الفلسطينيين. ويستدل من مراجعة تلك المرحلة الحرجة ان رئيس "موساد" الجديد السفير افرايم هاليفي هو الذي بلور فكرة الافراج عن الشيخ أحمد ياسين كثمن لإرضاء السلطة الأردنية التي توسطت دائماً لإطلاق زعيم "حماس". ويبدو أن نتانياهو استدعاه على عجل من بروكسيل سفير الاتحاد الأوروبي لمرافقة وفد الاعتذار المؤلف من: رئيس الوزراء والوزيرين شارون وموردخاي، وسكرتير الحكومة داني نافيه، واللواء ديفيد عيري. ونجح افرايم في مهمته مع السلطات الأردنية نظراً للدور الذي قام به سابقاً كرجل اتصال اختاره صديقه اسحق رابين لشق الطريق نحو معاهدة السلام مع عمان. لذلك أطلقت عليه الصحافة الاسرائيلية لقباً جديداً اضافة الى لقبه المعروف "القناة السرية"، فوصفته ب "الرجل الذي أنقذ داني ياتوم من الوحل". والملاحظ أن الأردن استقبل قرار اقصاء ياتوم بتجديد علاقاته المجمدة مع حكومة ليكود، وذلك من خلال الزيارة التي قام بها هذا الاسبوع لاسرائيل ولي العهد الأمير الحسن، واجتماعه بكبار قادة أجهزة الاستخبارات. واعتبر نتانياهو أن الزيارة كانت بمثابة مؤشر سياسي لتنظيف العلاقات بين البلدين من آثار عملية خالد مشعل، رئيس مكتب "حماس" في عمان. السؤال الذي يطرحه التغيير في قيادة "موساد" يشدد على ضرورة كشف الأسباب الحقيقية التي فرضت تأجيل استقالة داني ياتوم الى اليوم، وهي أسباب غير معلنة ادعى نتانياهو أنها فنية تتعلق بأهمية انتقاء شخصية قادرة على منع الضرر المعنوي الذي تعرض له أكثر من 1700 عميل تقتطع لهم الحكومة كل عام عشرة في المئة من موازنة وزارة الدفاع بليون ومئة مليون دولار. وتوقع المعلقون أن تتم الاستقالة عقب صدور تقرير "لجنة شاحنوبر" واتهام ياتوم بارتجال عملية كان مقدراً لها ان تفشل على الصعيد التنفيذي. لكن استقالته تأخرت بضعة أشهر مُني خلالها جهازه بسلسلة نكسات كان آخرها في "برن"، أي العملية التي اكتشفتها الشرطة السويسرية عندما ضبطت خمسة من رجال الاستخبارات الاسرائيلية كانوا يحاولون زرع أجهزة تنصت على اتصالات ناشط من "حزب الله". اضافة الى محاكمة عميل "موساد" ايهود جيل، المتهم بافساد أمانة واجبه الوظيفي لأنه اختلق تقارير وهمية كادت تشعل حرباً بين سورية واسرائيل. رشحت أخيراً من الصحف الأميركية معلومات تؤكد ان نتانياهو رفض قبول استقالة ياتوم بعدما وعده بامتصاص النقمة ضده في حال استمرت مخاصمة الأجهزة الأخرى له خصوصاً "شاباك". والدافع الى هذا الدعم المستهجن سببان، أولهما شخصي... وثانيهما وظيفي. السبب الشخصي يرجع الى إعجاب نتانياهو برئيسه الضابط السابق الذي نفذ تحت إمرته عمليات عسكرية بينها تفجير طائرات ال "ميدل إيست"، وعملية اقتحام طائرة مخطوفة تابعة لشركة "العال". أما السبب الوظيفي فيعود الى إلحاح نتانياهو واصراره على ضرورة الانتقام السريع لضحايا عملية انتحارية في القدس نفذت في 30 تموز يوليو. وواضح من مضمون التقرير الرسمي ان رئيس الوزراء هو الذي أعفى جهاز "شاباك" من الاشتراك في خطة رفض تنفيذها بسبب السرعة المطلوبة، كما رفض اطلاع وزير الخارجية ديفيد ليفي على تفاصيلها، علماً بأنه عضو في المجلس الوزاري المصغر، وادعى انه استشار عوضاً عنه الوزير شارون الذي صادق على محاولة اغتيال مشعل فوراً. غولدا مائير هي التي أسست اللجنة الوزارية المصغرة عام 1972 يوم قررت تصفية قادة "أيلول الأسود"، وهي لجنة تدعى "ايكس" تضم رئيس الحكومة ووزراء الدفاع والخارجية والعدل. ومن المفروض ان يجتمع اعضاء هذه اللجنة مرة في الاسبوع مع رئيس "موساد" ومفتش الشرطة ورئيس "شاباك" ومدير شعبة الاستخبارات العسكرية. وبناء على التقارير تلقى المهمة على عاتق أحد الاجهزة شرط موافقة الوزراء المعنيين بهدف تحمل المسؤولية. ومن حق الوزير ان يتحفظ عن عملية معينة كما حدث مع عزرا وايزمان واسحق نافون اللذين أبديا تحفظهما على اغتيال "أبو جهاد" سنة 1988. لكن العملية نُفذت بسبب موافقة مختلف الاجهزة على ضرورة تنفيذها، تماماً كما حدث اثناء اغتيال عباس موسوي أو "المهندس" يحيى عياش في غزة. وعلى قاعدة المشاركة كانت تتم أخطر العمليات بما فيها عملية "ربيع الصبا" التي تعاون على تحقيقها جهازا "موساد" و"شاباك"، اثناء تصفية قادة "فتح". وتشير صحيفة هآرتس الى ان جميع رؤساء الوزراء بمن فيهم اسحق شامير، كانوا يتبعون شروط خطة المشاركة والتشاور باستثناء نتانياهو الذي تفرد بالقرار لاقتناعه بأن وقف جنون الارهاب يحتاج الى عقل ارهابي. لذلك تحاشى العوائق المرتبطة بالمجلس الوزاري المصغر و"شاباك" واعطى داني ياتوم الضوء الاخضر لتنفيذ عملية اغتيال خالد مشعل. وتردد في الصحف الاسرائيلية ان ياتوم تعرض لتآمر الاجهزة الأربعة الاخرى، وان عملية "برن" كُشفت بسبب عدم ابلاغ رئيس "شاباك" عنها. والمعروف ان جهاز "شاباك" يشترك دائماً مع "موساد" في تنفيذ العمليات الخارجية. وعندما أُعلن فشلها لم يعد باستطاعة نتانياهو حماية رئيسه السابق فاضطر الى قبول استقالته وتعيين أفرايم هاليفي مكانه. وبسبب الشكوك التي ساورته حول تسريب معلومات للصحافيين، أوكل نتانياهو الى جهاز أمن الدولة "شين بيت" اجراء تحقيقات لكشف الجهة المسؤولة عن نشر أخبار تتعلق بفشل عملية "موساد" في سويسرا. كتب أفرايم هاليفي عن مهمته الجديدة في صحيفة "يديعوت أحرونوت" اعترف بوجود خلل تنظيمي وعد باصلاحه. وذكر في مقاله ان التوراة تحدثت عن الاثني عشر جاسوساً الذين أرسلوا الى أرض كنعان بهدف استكشافها، وقال ان فكرة جمع المعلومات بدأت في التاريخ اليهودي قبل الفين وخمسمئة سنة. واعتمد مؤسس جهاز "موساد" أيسر هاريل عام 1951 على "الوكالة اليهودية" التي كانت توفر المعلومات لزعماء الصهيونية قبل انشاء دولة اسرائيل عام 1947. وبسبب محدودية الطاقة البشرية في الدولة العبرية، شكلت الاستخبارات الخارجية الجدار الواقي الذي يردم هوة العدد بين الجيش الاسرائيلي وجيوش الدول العربية. وهكذا نشطت اجهزة الاستخبارات الخمسة كدعامة أساسية لوجود الدولة العبرية وللحفاظ على مناعتها السياسية والاقتصادية. وأوكلت الى جهاز "موساد" مطلع الخمسينات مهمات مختلفة بدءاً بعمليات ترويع اليهود في الدول العربية وتأمين سبل الفرار لهم... وانتهاء بالتآمر على الاحزاب القومية والحركة الناصرية في كل من مصر والعراق وسورية. ولمع في ذلك الحين اسم رؤوبين شيلوح كواحد من أهم الآباء المؤسسين للاستخبارات والتجسس في اسرائيل. وهو صاحب منهجية استراتيجية تؤمن بضرورة بناء تحالفات مع الدول المحيطة بالعالم العربي، بهدف تطويقه ومحاصرته ولجم تطوره. وانسجاماً مع هذا التصور نشط جهاز "موساد" لإنشاء هذه الدائرة في ايران وتركيا واثيوبيا بقصد إرباك سورية والعراق والاردن ومصر. كما حاول التودد للأقليات العرقية داخل الدول العربية فغازل الاكراد في شمال العراق، والمسيحيين في لبنانوجنوب السودان. وعندما تولى إيسار هارئيل رئاسة "موساد" منتصف الخمسينات اعتمد نظرية التطويق التي عرفت ب "سياسة الضواحي" وأقام مثلثين: الجنوبي، ويتشكل من ايران وتركيا واسرائيل... والشمالي، ويتألف من جنوب السودان واثيوبيا واسرائيل. وادعت غولدا مائير في تلك الفترة انها التقت رئيس حكومة السودان عبدالله خليل في فندق "اثينه" في باريس صيف 1957، واتفقت معه على ارسال خبراء زراعيين ومستشارين مدنيين وعسكريين. ومع وصول الفريق ابراهيم عبود الى الحكم 1958 انحسر النشاط الاسرائيلي عن السودان فترة طويلة ولم يلبث ان عاد مع المتمردين الذين اعلنوا العصيان عام 1966. وتولى جهاز "موساد" تدريبهم وتزويدهم أسلحة عن طريق أديس أبابا واوغندا. ثم استؤنفت الروابط مع الخرطوم إثر اعلان اتفاقي "كمب ديفيد"، الامر الذي أدى الى نقل "الفلاشا" - يهود اثيوبيا - الى اسرائيل بمساعدة رئيس الاستخبارات السودانية الجنرال طيّب. الحرب اللبنانية شجعت جهاز "موساد" على التسلل الى الساحة السياسية على أمل جمع أكبر كمية من المعلومات عن المنطقة، والعمل لإرباك منظمة التحرير. وطور ديفيد كيمحي، نائب رئيس "موساد"، عمليات التسلل على نحو يخدم فكرة تقوية العلاقة مع الأحزاب المسيحية المعارضة لتوسيع نفوذ المنظمة. واستغل كيمحي وجود شارون في وزارة الدفاع ليؤمن امدادات السلاح، وينشئ بعثة ثابتة للجهاز في جونيه. وكان من الطبيعي ان يستغل كيمحي فوز ليكود عام 1977 ليحصن موقعه عند مناحيم بيغن، الذي أراد تتويج نشاطه السياسي بايجاد نظام يسمح بأن يكون لبنان الدولة العربية الثانية التي توقع اتفاق سلام مع اسرائيل. واختار لتنفيذ هذه المهمة شموئيل أبيتار، رئيس القسم المسيحي في "موساد" الذي طالبه بيغن بمساعدة الموارنة لإظهار تميز اليهود عن الكاثوليك الأوروبيين الذين اطلقوا عنان كراهيتهم للساميين. ولما فشلت هذه الاستراتيجية، قام رئيس "موساد" اسحق حوفي بمحاكمة كيمحي واعلان طرده مع ابيتار الذي عين أخيراً مستشاراً لشؤون الطوائف المسيحية في بلدية القدس. السؤال الكبير الذي يرافق تعيين افرايم هاليفي يتعلق باستراتيجية جهاز الاستخبارات خلال المرحلة المقبلة، وهل سيسمح الرئيس الجديد ل "موساد" لنتانياهو باستغلال هذا الجهاز لتحقيق طموحاته الشخصية؟ واضح ان اختياره حرك العلاقات المجمدة مع الأردن، وأعطى السلطة الفسلطينية بعض الاطمئنان نظراً تمسكه بالخط السياسي الذي دشنه صديقه اسحق رابين. ومع ان الأجهزة الأمنية الأخرى مثل "شاباك" حذرت من اندلاع انتفاضة ثانية في الضفة الغربية، إلا ان هاليفي يستبعد مثل هذا التدهور الأمني بسبب الضوابط التي يضعها ياسر عرفات، والخوف من فقدان السيطرة على الشارع إذا تجددت المواجهة. لكنه يتوقع ازدياد نشاط "حماس" و"الجهاد الاسلامي" داخل الضفة… اضافة الى تزايد عمليات "حزب الله" في الجنوب إذا فشل مشروع الانسحاب. ومعنى هذا ان عملاء "موساد" سينشطون في هذين المجالين لتدمير البنى التحتية والخلايا التي أقامتها القوى المسلحة. ويراهن المراقبون على تجديد حركة الاستقلال في شمال العراق على ان يغذي جهاز "موساد" ظروف الانفصال كمظهر من مظاهر الإرباك للعراق وسورية وايران. "حزب الله" يترجم تهديدات قائد المنطقة الشمالية عميرام ليفين، بلغة المجابهة، ويعتبر ان هاليفي سيختبر قدرة عناصر "اكاديمية رامبو" بعد الفشل الذي منيت به في الجنوب. وكان نتانياهو أمر قبل سنة بإنشاء فرقة قتالية مستقلة تتولى التدريب على "مقاومة عمليات الارهاب"، ثم أوكلت الى الضابط المتقاعد دورون ابروزكي مهمة مكافحة أعمال الخطف والتفجير، شرط ان تكون أكاديمية رامبو نسبة الى دور المغامر رامبو تابعة لپ"موساد". وفي آخر مواجهة مع عناصر هذه الفرقة استطاع الجيش اللبناني و"حزب الله" ان يفجرا الالغام بصدور حامليها. وصف هاليفي مهمته بأنها محاولة لإصلاح صورة الجهاز الذي شوهته الفضائح. ومثل هذا الاصلاح او الترميم يحتاج الى تنفيذ عمليات ناجحة يمكن ان تعيد لپ"موساد" دوره السابق ونشاطه المؤثر على الصعيدين السياسي والعسكري. وكما ساهمت تدخلات نتانياهو في فشل عمليتي عمان وبرن، فإن تفرده بالقرارات الخطيرة يمكن ان يدفع هاليفي الى الاستقالة كما استقال داني ياتوم!