يتكلم بعض أهل الكلام والكتابة، في بعض أرجاء المعمورة بل و"في القلب" منها ووسطها، على ضعف دولهم وتفرق أممهم من غير حفيظة ولا ضغينة. ويقرب ذلك من أن يكون سروراً وجذلاً. وأول ما ينفيه هؤلاء عن أمتهم وشعبهم هو الضرورة والإضطرار. فتذهب السيدة إيزابيل ستينغيرس - وهي فيلسوفة بلجيكية، تكتب بالفرنسية، ووقعت مع إيليا بريغوجين، نوبل الكيمياء، "الحلف الجديد" بين العلوم الدقيقة والصلبة وبين الصفات المحسوسة والعصية على التجريد - جواباً عن سؤال يتناول "ضرورة" بلجيكا الثقافية، الجامعة الثقافة الفرنسية إلى الهولندية، تذهب إلى انتفاء ضرورة عن كل الأشياء. وعلى خلاف الضرورة، ثمة تواريخ وتقاليد وتراثات تتفاوت ثراءً وغنى، كثرةً وقلة. ويؤرخ هوغو كلاوس الروائي وصاحب "شجن البلجيكيين"، على المنقلب الفلامندي والهولندي، أو النئيرلندي اللغة والقوم، من بلجيكا إياها، يؤرخ لقيام بلجيكا، فينسب نشأتها وظهورها إلى غيرها. فبلجيكا، "الكيان" و"الدولة الضعيفة التخلق" الشوهاء؟، إنما حمل عليها الفالونيون، الجنوبيون والفرنسيو اللغة، والفلامنديون، الشماليون والهولنديو اللغة، حملاً، وقسروا عليها قسراً. ويزعم الروائي الفلامندي، شأن الفيلسوفة الفالونية، أن بلاد الفلاندر أوشكت في القرن السادس عشر، إبان اضطهاد الممالك الكاثوليكية الإصلاحيين البروتستانت وهجرة النخب الفلامندية البروتستانتية جماعةً إلى هولندا، على الذواء والاضمحلال. ولو لم يعمد بعض الكهنة القوميين، في أوائل القرن العشرين، إلى إحياء لغة واحدة ائتلفت من لهجات متفرقة لما تعرَّف الفلامنديون رابطة وهوية. وهذا كذلك من آيات الجواز وانتفاء الضرورة. وعليه، لا يزعم هذا النفر من الكتّاب والمثقفين البلجيكيين، على وجهي بلجيكا اللغويِّين والقوميين، "الوحدة الوطنية" العميقة لبلدهم ودولتهم. وهم لا ينصبون أنفسهم لا دعاة مثل هذه الوحدة ولا حماتها أو أولياءها. بل يجمع كلاوس، الروائي، وستينغيرس، الفيلسوفة، على هشاشة بلجيكا، الدولة و"الأمة". فتقول ستينغيرس إن احتمال انهيار الدولة البلجيكية الواحدة، وما قد يترتب عليه من التحاق فالونيا بفرنسا واستقلال الفلاندر التي لا يرى كلاوس التحاقها بهولندا مرجحاً، لا يورث البلجيكيين الهلع ولا الخوف. بل إن احتمال الانفصال وتبدد الدولة لا يبعث، اليوم وعلى خلاف ما جرى في العقد السابع، عى حركات قومية قوية تداوي اضطراب المستقبل وترجحه بالبرامج الوحدوية والاندماجية. فمثل هذه الطبابة، الوحدوية والإندماجية، تبدو شراً من الداء الذي تزعم مداواته وطبابته. فهي تؤدي إلى ما تسميه الكاتبة الفالونية "التجنيد الخلقي"، أو "النعرة الأخلاقية" التي تقمع قيام الناس بأنفسهم أحراراً وراشدين، وتسلط عليهم، على قول الروائي الفلامندي، من يقوم فيهم قائداً ومرشداً. وفي كلتا الحالين يُنزَل الناس منزلة القصَّر و"السفهاء". وهذه المنزلة مقدمة ضرورية للاستبداد والطغيان و"كذب الدولة" ستينغيرس وإرهابها، ولو المعنوي، باسم القومية أو الوطنية والوحدة. ولا يرى هذا النفر من أهل العبارة، أو أهل القول والكتابة، غضاضة في المحاماة عن دولة ضعيفة، في ميزان المركزية والتوحيد والسلطان، على شرط ألا تسودها مصالح الفئات والأشخاص، وألا تنتهك هذه المصالح حقوق الأفراد وأمنهم. فالدولة الضعيفة، على مذهب الحقوق الفردية، إنما هي الدولة التي تقدم مجتمعها، وأفراده، على إدارتها، ومزاعمها في التدبير والتوحيد. لكن المحاماة عن دولة ضعيفة لا تستقيم، بحسب ما يضمره قول الروائي والفيلسوفة، إلا إذا قامت هذه الدولة في جوار متحفظ يلجم النازع إلى التسلط والاستيلاء والضم عنوة. فهي تعوِّل على "قومية" الفرنسيين، وكبريائهم، إذا تصدعت الدولة البلجيكية الواحدة، ليحسنوا وفادة الشطر الفالوني، ويحتفوا به احتفاءً رفيقاً ومن غير تجديد إنشائه "القومي"، و"تربيته" على الوحدة القومية والقيم الأخلاقية، شأن المعسكرات "التربوية" الصينية والفيتنامية الشيوعية، أو شأن "المخيمات القومية" اللبنانية العروبية. ويزعم هوغو كلاوس أن ظهور صناعيين عظماء، وتجاراً كباراً، ورحالة مُبعِدين، في الهولنديين، من وجه، واتخاذ هولندا لهجة أمستردام لغة رسمية لم تلبث أن استهلكت، من وجه آخر - بينما أقام الفلامنديون البلجيكيون بدارهم ولم يستعمروا الكونغو إلا إرضاء لنزوة ليوبولد الثاني الشخصية، وهم ابتدعوا لغة من طريق التأليف بين لهجات متباعدة - يزعم كلاوس أن الأمرين هذين يرفعان سداً سميكاً وعالياً بين القوم الواحد والناطق بلغتين متقاربتين. فيستبعد انضمام الفلامنديين، إذ انقسمت الدولة البلجيكية، إلى "إخوانهم" و"أشقائهم" الأقرب. ومن غير أن يقصد الكاتبان، على اختلاف حرفتهما الكتابية، يجمعان على ما يشترك فيه "جناحا" بلدهما، على مثال استعارة لبنانية مستهلكة. فإذا به، هذا القاسم المشترك، شيء سالب، أو سلبي، هو انتفاء الكبرياء الوطنية، على ما تقول ستينغيرس، أو الرضا بحال المنبوذ والمهرِّج المضحك، على قول كلاوس. فيعصم انتفاء الكبرياء الوطنية من طلب الكذب، والبعث عليه، وتصديقه، ويمنع من تصدي بعض الناس إلى احترافه وسَوْس الناس به وبإيحاءاته وأوهامه. أما المنبوذ والمهرِّج المضحك، وهو على علم بحاله، فحاله أقرب إلى طبائع الناس. والدولة التي يرتضي حكمها وسلطانها، وتصدر عن طبعه وجبلِّته، دولة متواضعة، خفيضة الجناح. فلا تزعم، على هذا، مداواة الشر المتأصل في البشر، ولا تطلب لنفسها الوسائل والآلات المدمرة والقمينة، على زعمها، بشفاء البشر من سريان الشر فيهم واستدخاله إياهم. فلابأس ببعض الفساد في الإدارة والسياسة، إذا كان التصلب والتشدد هما الرد القاطع والحاسم. ولابأس بائتلاف قوى الجنوب وقوى الشمال السياسية، وب"ميثاقها" السياسي الموْرِث الرتابة منذ نيف وعقدين، إذا كان حلفها قادراً على لجم الحركات القومية المتعصبة والتعبوية. تقول ستينغيرس إن انتظار مخلص ليس من طبع البلجيكيين ولا من ثقافتهم - والكلمتان معناهما واحد في استعمالها. ويقر البلجيكيون، على زعمها وزعم مواطنها المختلف لغةً وقوماً وفناً، باصطناع بلدهم و"تركيب" دولتهم. فهم، أي البلجيكيون المجتمعون صفة والمتفرقون على الأنحاء الأخرى، لا ينشدون الوحدة القومية العميقة والمتجانسة، على نحو ما لا ينتظرون من يتولى عنهم، ومحلهم، اجتراح ما لم يقدروا على اجتراحه، هم كلهم، طوال قرون من تاريخهم المنفصل وعقود من تاريخهم المتصل. فإذا انتصب فيهم من يزعم لنفسه هذه القوة أيقنوا كذبه ومراوغته وانتحاله، وخافوا ما يبيَّته لهم ولأولادهم ومجتمعهم وجيرانهم. لكن ارتضاء سياسة ضعيفة، على مثال "الفكر الضعيف" الذي دعا جياني فاتيمو الإيطالي إلى ضبط تسلط المذاهب الإيديولوجية الامبريالية والمتعنتة به، لا يؤدي إلى التهاون في مقاومة الفساد والسياسات الاجتماعية القاصرة، ولا إلى التراخي في معارضة تجاوز القوانين والانكفاء على مصالح الفئات، أو إلى التستر على حدة الأزمات السياسية والأخلاقية التي تصيب المجتمع البلجيكي وما يليه من المجتمعات الأوروبية. وليس معنى ارتضاء سياسة ضعيفة، ودولة ضعيفة، العزوف عن كل طوبى سياسية واجتماعية. فالإقرار بحقيقة الأزمات والمشكلات، وطلب معالجتها من غير إنكار الوقائع والأحوال الملابسة لها، ومن طريق إرادات الأفراد والمواطنين، وهم على حال من الرشد والصحو البعيدين من "الهستيريا" ستينغيرس و"الدرامية المفرطة" كلاوس - هذه كلها قيم سياسية ومجتمعية تأتلف منها طوبى غير قاتلة. فهي، على خلاف إيديولوجيات الحربين العالميتين، وإيديولوجيات الحرب الباردة و"أصوليات" غداة الحرب الباردة الغالية، على علم بما تنكر يفوق علمها بما تنشد وتريد. أما حدُّها فهو، على ما سبق، "الهستيريا"، أي اجتماع المرء أو القوم، ونفسه وجسده، واحداً لا يأتيه الشقاق من أمامه ولا من ورائه. فإذا استوى واحداً ترجم رغباته ومخاوفه "أحوالاً" و"رؤى" لا ترد ولا يرد عليها.