في العقود الأخيرة من العهد السوفياتي كانت الشيخوخة رمزاً للحكمة. وبلغ المعدل المتوسط لأعمار أعضاء المكتب السياسي للحزب الشيوعي سبعين عاماً ونيّفاً. فغدا هذا المحفل "هرماً" للسلطة بالمعنيين، وأصبح رمزاً ومؤشراً إلى أن النظام يقترب من نهايته. ولم تفلح مساعي ميخائيل غورباتشوف في الجمع بين خبرة الشيوخ وطاقة الشبان. وعمد خلفه بوريس يلتسن إلى تشكيل فريق من الاصلاحيين الراديكاليين الشبان بقيادة يغور غايدار، نادوا ب "ثورة" تنقل بلادهم، بين عشية وضحاها، من غياهب الشيوعية إلى ملكوت الرأسمالية، إلا أن الثوريين الجدد اخفقوا في تحقيق الطفرة الكبرى، فأطيح قائدهم كي تسلم الراية إلى فيكتور تشيرنوميردين، العضو السابق في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الذي استبقى أو بالأحرى ارغم على ان يستبقي في الحكومة عناصر من الوزارة القديمة، الأمر الذي كان ضمانة أكيدة لاستمرار الأزمة والتخبط وبقاء الاصلاح الفعلي، أملاً بعيد المنال. وقبل أن يبلغ تشيرنوميردين الستين من العمر، قرر يلتسن أن يعيد الكرّة، فرشح لرئاسة الحكومة سيرغي كيريينكو، مؤكداً ان عمره 35 سنة هو من الخصال الحميدة الكثيرة التي يتمتع بها، فيما كان الشباب نقيصة لا تغتفر في نظر المعارضة التي أشارت إلى أن بلداً بحجم روسيا يحتاج إلى قائد محنّك، خصوصاً أن رئاسة الدولة تنتقل تلقائياً إلى رئيس الوزراء في حال حدوث "طارئ" للمرجع الأول. وقبل أن يقدم كيريينكو برنامجه الاقتصادي والسياسي، حرص في أول مقابلة تلفزيونية على تأكيد تحدده من أب يهودي وذلك "دفعاً للالتباس". والانتماء القومي قد لا يكون ذا أهمية في حال توافر صفات أخرى ينبغي أن يتسم بها رجل الدولة الذي توكل إليه إدارة الدفة في روسيا، كما أنه ليس اطلاقاً دليلاً مسبقاً على أن كيريينكو سيكون منحازاً إلى طرف ضد آخر. ولكن نظرة سريعة إلى "هرم الشباب" في روسيا تثير تساؤلات كثيرة عن العدالة في التوزيع القوي للمناصب. إذ أن اليهود الذين لا تتعدى نسبتهم 1 - 5،1 في المئة من السكان يشغلون 30 - 40 في المئة من المناصب في الوزارة والديوان الرئاسي. ويقتسم حصة الأسد في أجهزة الاعلام البليونير بوريس بيزوفشكي وهو مواطن إسرائيلي سابق، وفلاديمير غوسينسكي رئيس المؤتمر القومي اليهودي. وثمة ستة يهود بين أكبر سبعة صيارفة في روسيا. وقائمة أغنى رجال الأعمال في روسيا تضم بين الخمسين الأوائل ثلاثين اسماً يهودياً، علماً بأن الكثيرين من اليهود يتخذون لأنفسهم اسماء روسية، أي ان "التناسب" القومي في هذه القائمة قد يكون أكثر فداحة. وثمة ما يشبه "التابو" على مناقشة هذا الموضوع في الاعلام الروسي، وإذا ما تجرأ أحد على إثارته، فإن تهمة العداء للسامية جاهزة فوراً. وعلى استحياء وبمرارة تساءل رئيس الكتلة الزراعية في البرلمان نيكولاي خاريتونوف عما إذا كانت روسيا خلت من الروس. صحيح ان اليهود مواطنون لهم، أسوة بغيرهم، الحق في تبوؤ المناصب واكتناز الثروات، وبينهم شخصيات برهنت كفاءتها وحرصها على روسيا كوطن، وربما كان كيريينكو واحداً من هؤلاء. بيد أن احتلال واحد في المئة من السكان زهاء نصف الكراسي السلطوية والمالية والاعلامية ينبغي أولاً أن يضع حداً لأي تقولات عن عداء للسامية في روسيا، ويجب ثانياً أن يدفع عقلاء اليهود إلى التفكير ملياً في ردود الفعل المحتملة. وأخيراً فإن ما قيل ليس مشجباً يمكن ان يعلق عليه العرب كسلهم وخمولهم، ولكن يجدر بهم ان يفكروا في طريقة للتعامل مع الدماء "الشابة" في روسيا