محاولات البلاد العربية، حكومات وشعوباً، لتحقيق الاكتفاء الذاتي من متطلبات الحياة ومقوماتها التي فرضتها طبيعة الحضارة العصرية، ينطبق عليها المثل العربي "أكثرت الحزّ ولم تصب المفصل". ومع هذا بدأنا نلمح في السنوات الأخيرة نضجاً يسم بعضاً منها، من حيث وضوح أهدافها وترتيب أولوياتها وفق امكانات الواقع وطاقات الانسان. ومن ذلك الالتفات الى ضرورة البدء في تكوين وصناعة الأساس والقاعدة، لا القفز الى القمة من دون قوائم. يدفعنا الى هذا التفاؤل ان الطفل العربي الذي طالما سقط من قائمة الاهتمامات العربية ما يعكس غياب الانسان العربي كوسيلة وغاية من آلية الذهنية المتصدية لإنقاد الواقع العربي من المحو والتبعية، أصبح الآن محوراً لتلك الذهنية بعدما أعياها المأزق الذي يكرر انتاج نفسه جيلاً بعد جيل، فجاء "مشروع الشخصية الكرتونية للطفل العربي" مبادرة رائدة من "المجلس العربي للطفولة والتنمية". وتعود فكرة الشخصية الكرتونية العربية الى العام 1990 عندما عقدت ندوة على هامش مهرجان القاهرة الدولي الأول لسينما الاطفال، طرح فيها المجلس العربي للطفولة والتنمية نتائج دراسات ميدانية على واقع سينما الاطفال في الوطن العربي تثبت خطورة الاعتماد على الافلام المستوردة خصوصاً الرسوم المتحركة. وعلى رغم ان مطالبة الندوة بإقامة مسابقة لابتكار الشخصية الكرتونية للطفل العربي لم تلق استجابة في حينها لعدم الثقة بجدواها ونجاحها، إلا انها لم تغب كفكرة ظلت تشغل المعنيين لسنوات حتى تبناها المجلس العربي للطفولة من جديد في المهرجان السادس لسينما الاطفال في شباط فبراير 1996، فعقدت ندوة شارك فيها خبراء ومتخصصون في مجالات التشكيل والتحريك والكاريكاتير وأدب الطفل والتربية والاعلام، أيدوا إقامة المسابقة التي من شروطها ان تكون الشخصيات المرسومة ذات ملامح مستوحاة من البيئة العربية، وتزود الطفل بقدرات الفكر والخيال والابداع، وان تلعب أدوارها داخل اسر تتنازعها دوافع وسلوكيات متباينة حتى يمكن توظيفها لصالح الطفل بحيث تغرس فيه القيم الصالحة وتشبع حاجاته النفسية والاجتماعية، ويمكن كذلك تطويعها في الاعمال الفنية والادبية والدرامية في السينما والتلفزيون. حظيت المسابقة على الفور بدعم اعلامي عربي تحمس لها وجعل منها قضية قومية، وبادرت جامعة دمشق والجامعة الأردنية الى انشاء أقسام لدراسة الشخصية الكرتونية. ونتيجة للتفاعل الايجابي مع فكرة المسابقة، رفعت قيمة الجوائز بتوجيه من الأمير طلال بن عبدالعزيز رئيس المجلس العربي للطفولة والتنمية الى 42 ألف جنيه بدلاً من 24 ألفاً، فشارك في المسابقة 200 فنان وكاتب من عشر دول عربية، رسموا 250 شخصية كرتونية، فازت منها اثنتان بالجائزتين الثانية والثالثة بعد حجب الجائزة الأولى، ونالت تسع أخريات جوائز تشجيعية. هذا الانجاز كان يمثل المرحلة الأولى من مشروع الشخصية الكرتونية العربية، تلتها المرحلة الثانية التي حملت شعار "توظيف واستثمار الشخصيات العربية في أعمال التحريك"، فعقدت لها ندوة في آذار مارس 1997 تناولت قضايا الانتاج والتسويق والاستثمار وخرجت منها بتوصيات عدة، بينها اقامة مسابقة لتحريك الشخصيات الكرتونية التي خرجت بها مسابقة الرسوم السابقة لانتاجها، على ألا تقل مدة الفيلم عن دقيقة واحدة، تتحمل تكلفته الشركة المنتجة، بينما يتحمل المجلس العربي للطفولة قيمة الجوائز والاعلان عنها. وكان من التوصيات أيضاً دعوة القنوات التلفزيونية العربية الى تشجيع تلك الأفلام ومساواتها في القيمة مع الافلام الاجنبية. ومن أبرز نتائج الندوة، ان جامعة الدول العربية في اجتماع لوزراء الاعلام العرب وضعت مشروعاً لإنتاج أفلام كرتونية للطفل العربي لمدة عام، وأقرت انشاء جهاز عربي متخصص للرسوم المتحركة. ضمن هذا السياق الداعم للمشروع، استضافت الجمعية العربية السعودية للثقافة والفنون "معرض الشخصية الكرتونية للطفل العربي" والندوات المصاحبة له في مدينتي الرياضوجدة بين 23 شباط و2 آذار الحالي. ودعا الأمير طلال بن عبدالعزيز، في كلمة ألقيت بالنيابة عنه في حفل افتتاح المعرض في الرياض، المؤسسات الاعلامية والقنوات الفضائية في الدول العربية للاسهام بدورها "في تشجيع شركات الانتاج والمستثمرين على انتاج عمل عربي نصنع منه مساحة من الحلم والابداع لأطفالنا ويؤكد قدرتنا على التعامل مع العصر". وأكد الأمير سلطان بن فهد الذي افتتح المعرض على تأصيل العقيدة الاسلامية في نفس الطفل العربي وغرس تعاليمها، منبهاً الى ان "ذلك لا ينسينا أهمية الجوانب الأخرى وإشباع مختلف الغرائز وتنميتها بتوازن وحكمة وحنكة تتيح للطفل الاكتفاء المطلوب وعدم التطلع لما قد يعتر ضه من مؤثرات وافدة لا تخلو من السلبيات والأضرار". ضم المعرض زهاء 176 شخصية كرتونية يستمد معظمها ملامحه من البيئة العربية، وكان للحيوانات والطيور والحشرات خصوصاً الجمل والنمل النصيب الأكبر منها. وفي الكتالوج الذي أصدرته جمعية الثقافة والمجلس العربي للطفولة تعريفات موجزة - الى جانب اللوحات - بأبعاد سلوك الشخصيات والأدوار التي تقوم بها. بعض تلك الشخصيات يسافر الى المستقبل أو يتجول في الماضي، وبينها من يصادق شخصيات عربية قديمة بارزة ابن سينا - ابن فرناس - ابن ماجد - ابن بطوطة - زرقاء اليمامة، ومن يتحرك داخل فضاء الخيال العلمي، أو يعيش على كواكب اخرى. وأغلب تلك الشخصيات ذكي، مرح، شجاع، صادق، يحب عمل الخير ومساعدة المحتاجين والمظلومين، ويقدم معلومات ونظريات علمية وجغرافية، ويهوى المغامرات والإثارة، فيما القليل منها شرير، بليد، بخيل، كسول وسريع الملل. وتتضح الهوية العربية لبعض الشخصيات الكرتونية المعروضة من أول وهلة، اما لأنه ذو اسم أو أصل أو زي عربي، أو لأنه مرتبط بالحياة العربية، أو مشتق من التراث العربي كما في حكايات "ألف ليلة وليلة". في حين نجد أن البعض الآخر ذو هوية ملتبسة مع شخصيات كرتونية أجنبية تنتج باستمرار، ولا يملك مع الاسم العربي شيئاً آخر، إذ من الصعب القبول بأن النمل والتفاح والزيتون والليمون والأسماك والكرفس هي شخصيات عربية بالتحديد. اختلاف اللهجات العربية المحلية وتفاوت الشكل والمظهر والزي بين البلاد العربية من أهم العوائق التي تقف في وجه مشروع الشخصية الكرتونية للطفل العربي الى جانب العوائق المادية والفنية. ومع أن اللغة الفصحى المبسطة هي المعتمدة من المجلس العربي للطفولة والتنمية، إلا أن المظهر والزي الخاص ببلد عربي دون غيره يحولان دون تواصل الطفل من بلاد عربية أخرى. وهناك جانب آخر يتعلق بتفاوت مستوى أساسيات الحياة الاقتصادية والاجتماعية وأساليبها بين شعوب البلاد العربية. ويقترح سعد عبدالرحمن، المدير السابق لمركز دراسات الطفولة في ورقته "البعد العقلي والنفسي - تساؤلات حول الشخصية الكرتونية للطفل العربي" لإنجاح الشخصية الكرتونية "أن يتم تجريدها من الخصائص المحلية ما أمكن ذلك وأن تكتسب صفة العمومية بالنسبة الى المجتمعات العربية". وينبه الى "ضرورة الحذر في تجسيد الشخصية الكرتونية لتظل في مستوى شخصية خاصة بالامتاع والتسلية ولا ترتفع الى مستوى توحد الطفل مع هذه الشخصية". ويقترح صالح الزاير الأستاذ في كلية التربية في جامعة الملك سعود في الرياض في ورقته "الرسوم المتحركة للأطفال: هل هي ثقافة أم تجارة؟"، لتجاوز المشروع معضلة المواءمة بين تحقيق الهدف التربوي والعائد المادي الضروري للاستمرار، أن يتم "دعم المشروع في بداياته من قبل الجهات الحكومية ذات الاختصاص... وكذلك وضع خطة تسويقية لا تفقد العمل الثقافي جديته... ووضع خطة زمنية لتحقيق الاكتفاء المادي من ايرادات المشروع بشكل تدريجي". واضافة الى الندوات وزعت اللجنة المشرفة على المشروع أسئلة على الباحثين والمهتمين لاستطلاع آرائهم ومقترحاتهم حول الشخصية الكرتونية العربية المقترحة في لوحات المعرض. ومع أن الدراسات التطبيقية الميدانية التي أجريت على الشخصيات المقترحة أضاءت جوانب عدة، إلا أن الأمر ما زال يتطلب وقفة جادة من الإعلاميين والباحثين لتنفيذ هذا المشروع في صورة صحيحة.