هل خرجت ايران مستفيدة من أزمة العراق مع الولاياتالمتحدة؟ وماذا عن عودة الحرارة الى العلاقات بين الاتحاد الاوروبي وايران؟ وهل لكل ذلك صلة بما شهدته طهران اخيراً من تظاهرات ومصادمات طلابية؟ شهدت جامعة طهران الكبرى التي تعتبر أحد اهم مراكز التأييد الطلابي للرئيس خاتمي، يوم الاثنين الماضي، أولى المواجهات الدموية بين طلاب متظاهرين من أنصار الرئيس ومتظاهرين من أنصار حزب الله الموالي للاوساط المتشددة. المواجهة في حد ذاتها انفجرت من جراء التعقيدات التي تمخضت عن قرار مجلس صيانة الدستور القاضي باقصاء عدد من مؤيدي الرئيس خاتمي عن الترشيح للانتخابات النيابية التكميلية المقررة يوم 13 من الشهر الجاري. لكن تزامنها مع خطوات خاتمية نحو اصلاح السياسة الخارجية، يشير بشكل لا يقبل الا القليل من الجدل الى ان وراء المواجهة اسباباً أعمق من مجرد القرار الذي اصدره مجلس صيانة الدستور. بداية يمكن الاشارة الى الموقف المتوازن الذي وقفته حكومة خاتمي حيال الأزمة الناشبة بين الحكومة العراقية من جهة والأمم المتحدة وأميركا وبريطانيا من جهة ثانية. وكان جوهر الموقف الايراني معارضة استخدام القوة العسكرية في حل الازمة ومطالبة بغداد، في الوقت ذاته، بالتنفيذ الكامل للقرارات الدولية الصادرة بحقه عن مجلس الأمن. والواقع ان هذا الموقف، الذي حرص خاتمي ان يكون صريحاً وبعيداً عن أي تأويل وتفسير خاطئ، اضافة الى محاولته قطع الطريق على أي سوء استفادة من اجواء الازمة، كان سبباً رئيسياً في حنق المتشددين عليه. فهؤلاء الذين كانوا ضربوا مثالاً صارخاً لسوء الاستفادة من اجواء الازمات في فترة طرد القوات العراقية من الكويت عام 1991، كانوا يتطلعون الى موقف ايراني مشابه لايذاء الموقف الاميركي - البريطاني. وما كان يحثهم على ذلك ان معارضة الموقف الاميركي حيال العراق من جهة وحيال العملية السلمية في الشرق الأوسط من جهة ثانية كانت لا تفتأ تتوسع، ما كان يضع على عاتق ا يران، حسب اوساط انصار حزب الله الايراني، المبادرة والعمل على اقامة محور عراقي - ايراني - سوري مناهض يمكن ان يجد اصدقاء ومتعاطفين كثيرين على الصعيدين الدولي والاقليمي. لكن خاتمي، على ما يبدو، لم يحبذ هذا المنطق المتشدد، بل فضّل استثمار الفرصة لتأكيد ان بلاده لم تعد تستهويها افكار الدخول في محاور سياسية وعسكرية تناهض الحقائق الدولية. كذلك لم تعد تنوي السباحة ضد موجات الواقع الاقليمي وعلاقات حسن الجوار. وانها في توجهاتها الجديدة هذه صادقة وواضحة وصريحة. كان ذلك الطرح موضع استياء المتشددين، خصوصاً انهم لمسوا ان الحكومة تتجنب ارسال عشرات الألوف من حراسها الثوريين الى المناطق المحاذية للعراق بهدف الانقضاض على الفريسة العراقية حين سقوطها بفعل الضربات الاميركية. ولا تشجع النعرات الدينية ومعارضة الحكومات أو نشر افكار تتعلق بمناهضة الاميركيين ومعارضة حشودهم العسكرية الكبيرة في مياه الخليج والمطالبة بانسحابهم. بل على العكس تحرص على ارسال وفد الى عمان في وقت كانت مدينة معان تشهد تظاهرات معارضة للحكومة الأردنية. وتطلب تأجيل زيارة وفد سوري رفيع الى طهران، كان من المفروض ان يرأسه نائب الرئيس السوري عبدالحليم خدام، لا لشيء الا لتجنب اعطاء انطباع مفاده ان ايران في صدد اقامة محور مشترك مع السوريين والعراقيين في وجه اميركا. الى ذلك لم يبدِ الرئيس خاتمي، على ما كان يأمل المتشددون، الحماسة المطلوبة لمقابلة وزير خارجية العراق محمد سعيد الصحاف عند زيارته العاصمة الايرانية في وقت الازمة. بل كان ما فعله هو تكرار الموقف الايراني القائل بمعارضة الضربة والتزام بغداد بالمقررات الدولية. وهو لم يسمح بمرور طائرة روسية كانت تقل نواباً من موسكو الى بغداد للمشاركة في ادانة اميركا ومعارضة ضربتها وحشودها العسكرية، الا بعد حصول الطائرة على الترخيص المطلوب من الاممالمتحدة. في حين كان المنطق يفرض، حسب اولئك، تشجيع كل ما يمكن ان يصب في مجرى ازعاج الموقف الاميركي. كل ذلك يعني، في منطق المتشددين، ان خاتمي عازم بالفعل على انتهاج سياسة التقارب مع اميركا. وهو يحاول استثمار الازمة العراقية - الاميركية لإتاحة أوسع الفرص والحظوظ امام تلك السياسة. وما اقدام حكومته على فتح باب ايران امام رياضيين ومثقفين اميركيين، والاقتصار في التباحث مع الروس عند زيارة وزير الخارجية الدكتور كمال خرازي الى موسكو، في فترة الأزمة، على أمور التعاون الاقتصادي والنفطي واستثمارات الطاقة والتبادل التجاري بعيداً عن تنسيق المواقف في خصوص معارضة الموقف الاميركي، الا بعضاً من الدلائل التي تؤكد عند انصار حزب الله ومحازبيهم من مسؤولين كبار، ان الرئيس خاتمي اصبح مهتماً بتطبيق وعوده التي كان قطعها في فترة الانتخابات. وعلى الصعيد نفسه يمكن الاشارة الى الزيارة الناجحة التي قام بها الرئيس السابق هاشمي رفسنجاني الى المملكة العربية السعودية اخيراً. إذ اكدت نية الاصلاحيين، الذين تنفر منهم الاوساط اليمينية المتشددة، في اعادة صياغة العلاقات العربية والاقليمية لبلادهم على اسس جديدة. وفي رأي تلك الاوساط ان الزيارة تمت في توقيت سيء لأن الاساطيل الاميركية موجودة في مياه الخليج. اما اصرار خاتمي ورفسنجاني على اتمامها وتوفير عوامل نجاحها، فلا يمكن ان يعني غير نيّة مفادها استخدام الأزمة الناشبة في الخليج غطاء لاعادة صياغة السياسة الخارجية الايرانية على اسس من التقارب مع اميركا وحلفائها في المنطقة. وما أعطى تلك الاوساط حجة في صواب توقعاتهم ان وزراء خارجية الاتحاد الاوروبي بادروا في اجتماع بروكسيل يوم الاثنين المضي الى اتخاذ قرار يقضي بمعاودة الاتصالات الوزارية المقطوعة مع ايران منذ نيسان ابريل من العام الماضي. وكانت الثمرة الاولى للقرار الزيارة الناجحة التي قام بها وزير خارجية ايطاليا لامبرتو ديني في بداية الشهر الجاري الى طهران حيث سمع من خاتمي استعداده "بكل صراحة وصدق للتعاون لمكافحة ظاهرة الارهاب البشعة والفظيعة بكل انواعها". وهكذا استطاعت ايران، في ظل السياسة الهادئة لخاتمي، ان تستثمر اجواء الازمة بين العراق واميركا في اتجاه الشروع بتطبيع علاقاتها الخارجية. فيما كان المتشددون يتمنون ان يتم الاستثمار في اتجاه تعميق مشكلات بلادهم مع العالم الخارجي. اما الدماء التي سالت في تظاهرة طهران، فهي ليست الا الدلالة الواضحة على عمق الهوة بين الرؤيتين الايرانيتين والمصاعب والصراعات التي تنتظر ايران على طريق خروجها من دائرة العزلة الى هواء العالم.