لو اتيح لزائر من كوكب آخر ان يرى مواقف الوسائل الاعلامية الاسرائيلية والعالمية من رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو منذ مجيئه الى السلطة في أيار مايو 1996 لاستغرب تماما انه لا يزال في المنصب. وكانت مجلة "ايكونومست" البريطانية اعتبرته "مدمناً على الاخطاء"، بينما لاحظت "تايمز" ان "التهجم عليه اصبح الرياضة المفضلة في اسرائيل". كما ان صحف اسرائيل تحمل انتقادات اليه تضارع ذلك في الحدة، على قضايا مثل فتح النفق التاريخي، ومشاريع الاسكان في القدسالشرقية، ومحاولة الاغتيال في الأردن، واستقالة وزير الخارجية ديفيد ليفي، وزيارته الأخيرة الى اميركا التي حرص فيها على لقاء الزعيم الديني المتشدد جيري فالويل، عدو الرئيس بيل كلينتون، وذلك قبل لقاء الرئيس الخ. ولا تواجه اسرائيل تحت نتانياهو تراجعا في موقعها العالمي والاقليمي فحسب، بل هناك تراجع اقتصادي داخلي وارتفاع في البطالة وصلت في 1997 الى 153 ألف عاطل عن العمل، اضافة الى هشاشة التحالف الحاكم. السؤال: كيف يستطيع نتانياهو الاستمرار؟ علينا ان نتذكر أولا ان الكتلتين الرئيسيتين في السياسة الاسرائيلية، اي التحالف اليميني الديني من جهة وتحالف يسار الوسط من الثانية، متقاربتان في الحجم، لكن اليمين خلال العقدين الأخيرين بدأ يتفوق بهامش صغير. من هنا فان اسحق رابين لم يفز الا بهامش ضئيل في انتخابات صيف 1992 بسبب فشل بعض التجمعات اليمينية الصغيرة في دخول البرلمان، اي ان الاصوات التي حصلت عليها ذهبت هدرا. واذا كان من الصحيح ان الهجمات الارهابية ساعدت نتانياهو في انتخابات 1996 الا ان انتصاره على شيمون بيريز لم يكن مفاجئا تماما كما رأى البعض. ثانيا، نشرت صحيفة "هآرتز" في الثالث من شباط فبراير الماضي، نتيجة استطلاع "بيس اندكس" للرأي الذي تقوم به جامعة تل أبيب شهريا ويعتبر الأوثق في اسرائيل. وبيّن الاستطلاع ان 75 في المئة يعتبرون ان عملية السلام مجمدة، وقال 83 في المئة ان ذلك يثير القلق. لكن "غالبية الناخبين لا تربط بين هذا الوضع وسياسات نتانياهو". لماذا لا يلقي الناخبون المسؤولية على الطرف الذي يستحقها؟ اذا كان الرئيس الأميركي السابق رونالد ريغان عرف بلقب "الاعلامي العظيم" فان نتانياهو نجح لا شك في القيام بدور "المخادع الأعظم"، الذي يصدقه الكثيرون من الاسرائيليين مهما تكررت اكاذيبه. ولا غرابة في ذلك عندما يرى الناخبون انه يريد الاحتفاظ ب65 في المئة من أراضي الضفة الغربية، ويرفض اي اعادة انتشار هناك قبل مفاوضات الوضع النهائي. أما بالنسبة الى المشكلة التي يمثلها ذلك بالنسبة لعملية السلام فهي تتلخص لهؤلاء الناخبين بحاجة الفلسطينيين الى "خفض توقعاتهم". هل هناك فلسطيني واحد يمكن ان يقبل مقترحات رئيس الوزراء الاسرائيلي؟ ان موقف نتانياهو يأتي في الوقت الذي يبدو فيه ان سياسة الولاياتالمتحدة ربما بدأت تخرج قليلا عن توجهها المعتاد، بعدما نادى الرئيس كلينتون بوجوب "حصول الفلسطينيين على طموحهم في العيش كشعب حر" من دون ان يصل الى حد الدعوة الى قيام الدولة الفلسطينية. واذ ينهمك نتانياهو باغتيال اتفاق اوسلو فهو يؤكد دوما انه يتصرف حسب "تفسير مشروع" للاتفاق. وادت الفضائح المحيطة بالرئيس الأميركي، ثم الأزمة مع العراق، الى صرف الانظار عن عملية السلام، وجاء التطوران في الوقت المناسب تماما لنتانياهو. ثالثا، يرى الصحافي وداعية السلام يوري افنيري ان نتانياهو شخص يؤمن بقضية وعلينا ان لا نقلل من خطره. انه ليس ذلك "النكرة المفتقر الى التجربة والمتخبط من أزمة الى اخرى" كما يرى الكثيرون، بل انه "متفنن في القول يخلق واقعا وهميا لا علاقة له أبدا باهدافه وخطواته". هدفه الرئيسي وضع الفلسطينيين في "بانتوستانات"، وهو يقدم هذا "الحل" تحت ستار دخاني كثيف من المطالبة بپ"التكافؤ" في المسؤوليات، أي تحميل الفلسطينيين المسؤولية عن أمن اسرائيل. هكذا فلن تحصل السلطة الفلسطينية على شيء ما لم تقض على "حماس" وتلغي ميثاق منظمة التحرير وتسلم الارهابيين المطلوبين الى اسرائيل، وهو ما يعنيه عندما يريد من الفلسطينيين "خفض توقعاتهم السياسية". وما ان يلبوا له مطلبا حتى يقدم مطلبا آخر وهكذا، أي ان الشك في نوايا "الآخر" يعشعش على اعلى المستويات. بدل الاحترام المتبادل الذي بدأ ينمو بعد أوسلو نجد افتراض القيادة الاسرائيلية اليوم ان ليس من خيار امام الفلسطينيين سوى الاستسلام امام التفوق العسكري الاسرائيلي. لكن نتانياهو يغلف تهديداته بستار من الكلام الذي يبدو معقولا عن "التكافؤ". وتحتم عليه التزاماته "الأمنية" التي يعتبرها مصيرية، الدفاع عن كل مستوطنة وابعاد كل الاعداء المحتملين عن الحدود ومنع الخيار الذي لا يمكن حتى التفكير فيه المتمثل بقيام الدولة الفلسطينية. وعندما تحين الانتخابات الاشتراعية المقبلة فهو سيستعمل هذه المعزوفة من دون شك متهما خصومه بالاستعداد "لخيانة الوطن". رابعا، لم يتمكن ايهود باراك، رئيس الأركان الاسرائيلي السابق ومرشح العمل لخوض الانتخابات ضد نتانياهو، من البرهنة على حضوره السياسي بعد. انه يتمتع، مثل رابين، بسجل "عسكري ناجح"، لكن رئيس الوزراء الراحل بدأ يدرك ان السلام هو الضامن الحقيقي لأمن اسرائيل، اما باراك فلا يبدو مستعدا لاتخاذ موقف يختلف كثيرا عن موقف نتانياهو الذي يسيطر عليه الهاجس الأمني. وربما كان باراك من المؤمنين بالحكمة السياسية القائلة بأن "المعارضة لا تربح الانتخابات بل ان الحكومة القائمة هي التي يمكن ان تخسرها". ومن هنا يرى ان طرح شعار "نتانياهو لا يصلح للسلطة" قد يكون كافيا. لكن ما الفائدة اذا نجح باراك وكانت سياسته مشابهة لسلفه؟ خلال ذلك يستمر نتايناهو في التغلب على أزمة بعد اخرى. واذا كان تحالفه يفتقر الى الاستقرار فان اطرافه لا ترغب بخوض انتخابات جديدة، وهو ما سيحصل اذا تخلت عنه. لذلك فهو باق على المدى المنظور، ما لم تواجه اسرائيل هزة سياسية كبرى. ومن الوهم توقع سقوطه نتيجة أزمة مقبلة. الشعار الجديد المطروح في سياق احتفالات الذكرى الخمسينية لإقامة دولة اسرائيل يقول: "سوية بافتخار، سوية باتحاد". لكن المعلق والشاعر المرموق ناتان زاك كتب في عمود في الثامن من شباط الماضي ان نتانياهو "هو من حول الديماغوجية الى بديل للسياسة وأزال الفرق بين الحقيقة والكذب ... لم يكن هذا مما طمحت اليه الأجيال، وسفكت لأجله الدماء". بعد يوم من ذلك قدمت صحيفة "نيويورك تايمز" وصفا صحيحا لنتانياهو اذ قالت انه "في جوهره توسعي". لكن للتاريخ طريقته في التعامل مع قادة يخدعون مواطنيهم ويرفضون التسليم بحقوق الشعوب الاخرى. والسؤال: كم سيستغرق هذا من الوقت، وكم سيكلف من الألم قبل ان ينتصر العقل.