لا تزال قضية المتهمين الليبيين في سقوط طائرة ركاب اميركية فوق لوكربي، في اسكوتلندا، سنة 1988، تراوح مكانها، أو هي تتقلب بين هبّة باردة وهبّة ساخنة، ففي كل مرة يقترب فيها الطرفان من الاتفاق على بدء المحاكمة يطلع طرف، أو آخر، بشرط جديد يعرقل الاتفاق. في البداية، اشترطت ليبيا عدم محاكمة المتهمين عبدالباسط المقراحي والأمين خليفة فحيمة في بريطانيا أو الولاياتالمتحدة، في حين أصر هذان البلدان على محاكمة المتهمين في بلد الطائرة، أو حيث وقع الحادث. وكان من نتيجة هذا الخلاف ان الولاياتالمتحدةوبريطانيا قادتا حملة انتهت بفرض مجلس الأمن الدولي عقوبات اقتصادية على ليبيا سنة 1992 لا تزال قائمة. هذا الصيف، تراجعت الولاياتالمتحدةوبريطانيا وقبلتا محاكمة المتهمين في بلد ثالث هو هولندا. ومع ان هذا القبول كان خطوة واسعة الى الأمام، فإن الطرفين سارا خطوات اخرى الى خلف عطلت المحاكمة المرتقبة. ليبيا كانت تريد ان يحاكما أمام محكمة على غرار محكمة العدل الدولية في لاهاي، الا ان الطرف الآخر اقترح ان تجري المحاكمة في قاعدة عسكرية مغلقة. وبعد تسوية هذه النقطة طرأ خلاف على الضمانات للمتهمين، ثم خلاف اكبر حول طلب ليبيا ان ينفذ المتهمان العقوبة، اذا دينا، في هولندا نفسها أو ليبيا، وإصرار الولاياتالمتحدةوبريطانيا بالمقابل ان تنفذ مدة العقوبة في اسكوتلندا حيث ارتكبت الجريمة التي راح ضحيتها 270 شخصاً بريئاً في الطائرة وعلى الأرض. الولاياتالمتحدة ليست أهلاً للثقة، فسياستها إزاء العرب والمسلمين مشبوهة، حتى لا نقول أكثر. ومن حق ليبيا ان تشك في المعروض عليها، وان تطلب ضمانات، ولكن ثمة نقاطاً ثابتة لا يمكن ان تطمسها أي مواقف أو مواقف مضادة. - هناك جريمة فظيعة ارتكبت بحق مدنيين أبرياء يجب ان يدفع المسؤول عنها، أو المسؤولون، الثمن كاملاً. - ليبيا تطالب بضمانات للمتهمين ليست موجودة لأي متهم في ليبيا نفسها، وواضح ان طرابلس تريد ضمانات لنفسها لا للمتهمين، وتخشى ان يستغل وجود المتهمين في الخارج للوصول الى مسؤولين كبار، لأنه اذا ثبتت التهمة، فلا يمكن ان تكون الجريمة من تدبير عميلين بسيطين للمخابرات، فمثل هؤلاء ينفذ أوامر تأتي من فوق. - العقوبات المفروضة على ليبيا أضرت بها ونفعتها، ولعل نفعها أكثر من ضررها، لأنها منعت ليبيا من شراء أي سلاح فلم تهدر ليبيا دخلها النفطي على أسلحة لا فائدة لها ولا هدف، كما فعلت في سنوات سابقة. وفي حين أن كل عربي ومسلم، وربما افريقي، يتمنى لو ترفع العقوبات فوراً، ومن دون قيد أو شرط، فإنني أزيد أنني أطالب برفعها وقد فعلت كل مرة كتبت عن الموضوع، إلا أنني أتمنى لو ان منع ليبيا من شراء السلاح يظل قائماً أتمنى لو يمتنع كل بلد عربي عن شراء السلاح لتنفق دخلها على ما ينفع شعبها ويرفع سوية عيشه. هذا الشعب ضايقته العقوبات قليلاً، إلا أنها تبقى محدودة ولا تقارن بالعقوبات المكبلة المفروضة على العراق. وإذا كان العقيد القذافي طلع من جلده العربي لأن القادة العرب لم يخرقوا الحظر على الطيران المفروض على ليبيا كما فعل بعض القادة الافريقيين، فإنه يبقى ان الخطأ لا يبرر الخطأ، والحديث الشريف "أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً" يعني ان ننصره بمنعه عن الخطأ لا بالدفاع عن أخطائه. كلنا يدعو ألا يكون هناك أي خطأ، وان تنتهي المحاكمة ببراءة المتهمين وبراءة ليبيا معهما. أما اليوم فالطريقة الوحيدة لرفع العقوبات هي ان يسلم المتهمان للمحاكمة في هولندا، وان يصل زعيم افريقي الى ليبيا بالطائرة أو لا يصل، لن يغير شيئاً من استمرار العقوبات، فهذه صادرة عن مجلس الأمن الدولي، حيث للولايات المتحدة حق النقض الفيتو، ما يعني ان تطول كما طال الوجود الاميركي في كوريا تحت مظلة الاممالمتحدة منذ الخمسينات، اذا لم يتوصل الطرفان الى حل وسط على شروط المحاكمة والضمانات المطلوبة. ولعلنا عندما تطوى هذه الصفحة المؤلمة من تاريخ ليبيا الحديث نعود فنسمع عن مشاريع منتجة مثل جرّ المياه من قلب الصحراء الى الساحل العطش، فهذا المشروع العظيم يعمل منذ سنتين ويجني الليبيون ثماره، غير اننا لا نسمع الا عن لوكربي ومحاكمة المتهمين. ولا بد ان النظام الليبي يستطيع ان يتبع هذا المشروع بمشاريع أخرى منتجة تفيد شعب ليبيا الصابر الصامد.