ما كدت أقرأ نبأ وفاة انعام رعد حتى تلاحقت الذكريات… خصومات عقائدية في الخمسينات، تفاعلات فكرية في الستينات على اثر كتابي "أزمة اليسار العربي" عام 1961 عندما كان انعام في السجن ومن بعدها تحالفات سياسية ومشاركة في العمل الوطني العام، كل من موقعه. كان التلاقي بيننا في مختلف المجالات دليلاً على وحدة المنطلق ووحدة الهدف. كان انعام رعد في كل أوجه حياته انساناً كبيراً… كان مفكراً رائداً بين السياسيين وسياسياً بين المفكرين… كانت مساهمته دوماً في اخراج "السياسة" من حيز المناورة الى حالة التزام. عندما كنت مسؤولاً في الجامعة العربية جاء مراراً الى الولاياتالمتحدة يتفقد عائلته الفكرية الواسعة، يحرض الجوالي العربية على رفض الاحباط والتردي، يفسر الأحداث الاليمة التي رافقت السنوات العشرين الأخيرة على انها مرحلة، ولا تشير الى حالة دائمة. كان مناضلاً صلباً من دون تعصب. اتقن الحوار فحوّل الاختلاف في وجهات النظر الى حوافز لمزيد من الحوار. اثبت ان الصلابة في المواقف لا تلغي الحاجة الى مرونة في ابلاغها واقناع الغير بها. عاش انعام رعد معاناة التفكك القومي في الحالة العربية، واعتبر قيام الكيان الصهيوني في فلسطين وكأنه اقتطاع لا من أمته فحسب، بل من ذاته كانسان ومواطن. هنا ظهرت بوادر التلاحم بين سورية قوميته والعروبة، وبالتالي صار انعام طليعياً في المحاولة التي لا تزال ساعية الى تعميق وتجذير. هذه القناعة الراسخة في وجدان الشعب العربي في كل أقطاره. أدرك انعام رعد ان أزمة الفكر العربي تحتاج الى مواجهة مع الذات كي يتسنى للفكر ان يكون مؤهلاً للتوجيه والانارة. كانت الشجاعة التي ميزت مسيرته الحافلة حصيلة تفاعل المعاناة مع آمال شعبه وطموحاته. كان لبنان بالنسبة اليه منطلقاً منفتحاً على البيئة القومية وعلى العالم. صحيح ان لبنان لم يشكل بالنسبة الى انعام رعد قومية قائمة بحد ذاتها، بل كياناً وطنياً قادراً على العطاء يعرف الأمة بالعالم ويعرف العالم بالأمة. من هذا المنطلق رفض اي تناقض بين لبنانيته الوطنية وسورية قوميته واندفع نتيجة التحدي الصهيوني الى ادراك بأن أي تباين بين أقطار الأمة العربية لا يشكل بل يجب ان لا يكون مدخلاً للتقوقع ونفي الانتماء الى العروبة. اني اعرف ان انعام رعد جعل من بيوت مواطنيه امتداداً لبيته العائلي لأن الموطنية تجمع في حين ان العصبية الدينية او الطائفية او المذهبية تفرق. كان يريد ان يدخل أبواب عقل المواطنين وعندما سدت أبواب العقل أمامه أدرك ان المجابهة ستكون مع الغرائز البدائية والتقوقعات المدمرة. مات انعام مجاهداً في سبيل قناعاته. قد يكون عاش كثيراً عند مشاهدته الحقيقة القومية تتبعثر وتندثر، لكنه أيضاً شاهد في آخر ايامه كيف ان الشعوب قاومت التطبيع مع اسرائيل واسقطت الخيار الحربي على العراق وتجاوبت بصدق مع التطورات المجددة في ايران. كم نشعر بحاجة الى انعام رعد في هذه الظروف كي يفسر لنا كيفية توظيف هذه الايجابيات لتصبح مرجحة على العذاب السائد. وإذ يغيب انعام رعد عنا لعل التعزية تكمن في ان نبلور الكثير مما زرعه في وجداننا لينمو الى ما يجب ان تكون الأمة عليه واخراجها بالتالي مما هي فيه.