يمثل البون الشاسع في وعينا الثقافي العربي والإسلامي ، أكبر الإشكالات التي تواجهها مجتمعاتنا حاليا ، حيث لم تعد مضامين خطاباتنا على الصعيد الوطني والقومي متناغمة ، ناهيك أنها قد أصبحت في بعض المواضيع متنافرة ، وهو ما كرس حالة الضعف والشتات المعاش حاليا . فمثلا وعلى الصعيد القومي لم تعد قضيتنا الأم وهي قضية فلسطين المكلومة ، وسبل مقاومة المحتل الصهيوني ، وأوجه مساندة أهلنا في الأراضي المحتلة ، الذين يعانون صنوف العذاب ليل نهار ، لم تعد هذه القضية تستحوذ على اهتمامنا بشكل أو بآخر ، وأصبح الحديث عنها أو ذكرها من نافلة القول ، كما لم يعد أمر التفاعل معها شأنا قوميا ، وإنما أصبح أمرا خاصا بسكان القطاع والضفة الغربية فقط ، ناهيك أن كثيرا من أبنائنا قد أصبح جاهلا بحقيقة جوهر صراعنا الوجودي قبل السياسي مع الكيان الإسرائيلي ، بل وأضحى جاهلا بهوية حقيقة الأرض والنفس . لقد شكل فعل الانغماس في ثقافة الحس القُطري أحد أخطر الإشكالات التي أصبحنا نعيشها كأمة عربية وإسلامية ، وفي تصوري أن ذلك لم يكن ليتم ، لولا تشتت حقيقة وحدتنا الثقافية ، وزعزعة قناعاتنا القومية ، عبر ممارسة ممنهجة على مختلف الأصعدة ولعقود طويلة ، شاركنا نحن بجهلنا وضيق بصرنا وبصيرتنا في تحقيق أهدافها ، ونجاح مراميها . حيث تم إشعال لهيب الفتنة منذ أواخر الخمسينات الميلادي بين مفهومي القومية العربية والحركة الإسلامية ، ليعمل كل منهما بعد ذلك على إقصاء الآخر ونفيه ، وينشغل أقطاب الفريقين في تفنيد حجج كل طرف ، ويعمل كل منهم جهده على استقطاب شارع يعيش حالة كبيرة من التخلف والعجز ، ويعاني آلاما مستعصية من الفقر والجهل ، وهو ما زاد من تعقيد الأزمة بين الفريقين ، وأجج من حدة وتيرة الصراع بينهما ، ثم وبعد أن استهلك كل طرف جميع قواه ، واستنفد القادة جل أسلحتهم ، وتغيرت موازين القوى الدولية ، أدرك الفرقاء حقيقة خسارتهم ، وآمنوا بأهمية الركون إلى الأرض ، والاستماع إلى بعضهم البعض بصورة مباشرة ، بعيدا عن ضجيج الإعلام ، وصيحات الشارع المريض ، وكان أن تم استيعاب مجمل الخلافات بينهم ، لكونهم قد اكتشفوا بعد عقود من التخوين والسباب والتفسيق والتضليل ، أن كثيرا من القواسم المشتركة تربط بينهم ، وأنه لا مناص من التعدد والاختلاف ، وأن تلك هي سنة الله في الكون ، وابتدأت المسيرة من جديد منذ الربع الأول من تسعينات القرن المنصرم بتأسيس المؤتمر القومي الإسلامي ، الذي يعد لبنة قوية في إعادة خريطتنا الثقافية إلى مسارها الصحيح ، ولبنة أقوى في مواجهة مشاريع التفتيت الصهيونية لأمتنا العربية بوجه خاص ، الهادفة إلى إعادة جدولة كياناتها السياسية ضمن مشروع الشرق الأوسط الجديد . في مقابل هذا التطور في مدركات التيارين القومي والإسلامي ، نعيش على الصعيد الوطني حالة مخيفة من إرهاصات ملامح التشتت الثقافي ، وبخاصة على الصعيد الإسلاموي ، الذي يعيش حاليا وضعا غير مسبوق من آلام المخاض الفكري ، جراء انكشافه على كثير من الأفكار المتغايرة ضمن إطار المدرسة المذهبية الواحدة ، مما حدا ببعض المتشددين ، وفي سبيل المحافظة على وحدة كياناتهم الفكرية ، اللجوء إلى إعلان حالة الاستقطاب السلبي ، لينقسم المجتمع الفكري بحسب قوانينهم ، إلى فسطاطين ، أحدهما مع الحق الذي هو مراد الله ، حين يتوافق الإنسان مع مختلف تفاصيل آرائهم ، والآخر يتهالك في أودية الردى ، وتتخطفه شياطين الإنس والجن ، ويتحلل من قيمه وأخلاقه الوطنية والدينية ، حين يتمايز فكريا عنهم . ما أحوجنا ونحن نعيش هذا المخاض إلى أن نستوعب ونستلهم الدروس والعبر من تجارب الآخرين ، وأن نجعل من قيمنا وثوابتنا المشتركة منطلقا لثقافتنا الوطنية أولا ثم القومية وصولا إلى العالمية الإنسانية ، وما أحوجنا أكثر لأن نؤمن بإمكانية تعددية المعالجات وأنظمة التفكير ضمن مشروعنا الديني الخالد ، مصداقا لقوله تعالى : (مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ)، ما أحوجنا إلى أن يعقد المفكرون والعلماء والدعاة قمتهم الثقافية ، بهدف إعادة صياغة ملامح وجداننا الفكري بصورة إيجابية ، لنتمكن من نبذ مشروع الاستقطاب السلبي والمحافظة على هويتنا وحضورنا العالمي.