تطوي اليد الورقة باصرار كأنها لا تسمح للكاميرا الملحّة ان تدخل عالمها، ان تكشف الكلمات التي يكتبها الشاعر... "هذه بقايا التقاليد المدرسية، ان نخبئ ما نكتب عن بعضنا البعض... لكن السؤال، لماذا لا أزال أتصرف هكذا حتى اليوم؟ ربما لأنني اعتبر ان الكتابة عملية سرية للغاية ولا أحب ان يرى أحد مسوداتي، ولا هذياناتي الأولى قبل أن تستقر على صيغة شبه نهائية". بهذه الصورة والكلمات، يبدأ الفيلم الوثائقي الذي أخرجته سيمون بيتون، عن سيناريو وضعته بالاشتراك مع الياس صنبر، والذي يحمل عنوان "محمود درويش: والأرض مثل اللغة...". انتجت الفيلم 59 دقيقة القناة الثالثة في التلفزيون الفرنسي، وسيتم عرضه في الأول من نيسان ابريل المقبل ضمن برنامج "قرن من الكتّاب" Un Siژcle d'Ecrivains الذي خصص سلسلته لأكثر من مئتي أديب عالمي في السنوات الأربع الماضية. وسيكون محمود درويش الأديب العربي الثاني، بعد نجيب محفوظ، تقدم القناة الثالثة حلقة عنه. ويذكر أن الفيلم ترجم الى العربية من أجل بثه في العالم العربي. يتابع الشريط المحطات الرئيسية لحياة الشاعر الفلسطيني، منذ ولادته في قرية البروة في الجليل التي محاها الاحتلال الاسرائيلي من الوجود، حتى انتقاله للعيش بين العاصمة الأردنية ورام الله. يقول الياس صنبر: "حاولنا ان نشبك بين ثلاثة عناصر: أولاً الشخص نفسه، وثانياً شعره، وثالثاً ان نظهر انه مع السيرة الخاصة ومع النتاج النوعي يوجد أيضاً تاريخ جماعي: الأحداث الفلسطينية حاضرة، لكن الفيلم ليس عن ما حدث في فلسطين في السنوات الخمسين الماضية. الخطوط الثلاثة تتقاطع دائماً. حاولنا اظهار كيف تلتقي الحياة الشخصية بالحياة الجماعية وكيف، بين الاثنين، كان يصنع النتاج الأدبي". ومن جهتها، توضح سيمون بيتون: "اعتقد أن كل من عاش المنفى، خصوصاً المنفى الاجباري، وكل من تاه وشعر بأن ليس عنده مكان على هذه الأرض، وكل من شهد الحرب من قريب، يجد في شعر محمود درويش كلاماً يخاطبه". في البروة، يقف أبو سهيل، عم الشاعر، يضرب بعصاه أرضاً غطتها الأشواك والأعشاب ويشرح: ان البيت كان هنا وأن الغرفة التي كان ينام فيها محمود كانت هناك وأن مضافة الجد كانت تمتد على تلك المساحة. ويتمشى نحو البئر القديمة ويتذكر بأن محمود كان "ذكياً وكريم الأخلاق وعصبياً جداً"... وفي الجهة المواجهة، عند جبل في الأردن، يقف الشاعر ويرى الغياب في متناول يده: "استطيع ان امسك به، استطيع أن اضمه، استطيع ان أبعده وكأنني هناك، وشبحي يخاطب جوهري الموجود هناك". أبو سهيل، وشقيق محمود الذي يخبّر كيف كانوا ينسخون دواوين عبدالوهاب البياتي وبدر شاكر السياب ونزار قباني ويتداولونها في ما بينهم بسبب ندرتها في الأراضي المحتلة، هما الشخصان الوحيدان اللذان يتكلمان عن محمود درويش في الفيلم. واما الباقي، فالشاعر "يحمله على كتفيه" كما تقول المخرجة. تعليقات صنبر وبيتون مختصرة، ولقطات الأمسيات الشعرية وافرة، ومحمود درويش يجيب عن الأسئلة التي يطرحها عليه الياس صنبر بارتباك حيناً وبخجل حيناً آخر، انما بصدقية واضحة دائماً. يقول: "لا أعرف لماذا أنا مقروء الى هذا الحد. ولكن، أجد أن هناك أجيالاً من الفلسطينيين تتعرف على مكانها وعلى ذاكرتها من خلال تقمص مشاهد من النص الشعري نفسه. أي ان القصيدة لا توزع صوراً واستعارات، بل توزع مناظر طبيعية، توزع قرى وتوزع حقولاً أي توزع أمكنة تسمح للغائب عن الجغرافيا، الحاضر في صورتها، القدرة على الاقامة في النص الشعري كما الاقامة في الأرض. ولا اعتقد ان من حق الشاعر ان يطلب سعادة أكبر من سعادة أن يعتبر بعض الناس أبياته الشعرية بيوتاً حقيقية ...". ازعجته الكاميرا الملحة، من دون شك، دخلت بيته ومكتبه ومطبخه، لحقت به الى المطار، الى الفندق، الى الشارع، و"نبشت" الى حد المستطاع، الى الحد الذي سمح به هو، في حياته الخاصة. تقول سيمون بيتون: "محمود ليس معتاداً على الكاميرا واعتقد أنه لم يكن يتوقع هذا الالحاح. ربما فكر باننا سنصور بعض المقابلات ونضيف اليها بعض الوثائق. لم نقدم له أي مادة قبل البداية بالتصوير، وبالتالي، لم يعرف كيف سيتم العمل. والأشخاص في الأفلام الوثائقية لا يتوقعون إلحاح الكاميرا التي تشكل، في معظم الحالات، اعتداء. وهو شعر بهذا الاعتداء بقوة، لكنه قبل الكاميرا وأنا أشكره من كل قلبي. لعب اللعبة على الرغم من أنها فاجأته. كان مرتبكاً في بعض المشاهد ولم أحاول إخفاء هذا الارتباك. هذه حقيقته، وفي لقطتين أو ثلاث نشعر بأنه غير راغب في أن يكون هنا ويُظهر ذلك بوضوح، إذ أنه بعيد كل البعد عن التصنّع... صورنا ساعات طويلة ومحمود تحمّل ذلك بلطف كما أظهر لنا ثقته الكاملة، منذ البداية". ويوضح الياس صنبر: "الجانب المهم في الفيلم انه تم في جو صداقة كبرى، وبالتالي تكلم محمود في عدد من المواضيع بطريقة مختلفة عن عادته، ذلك أنه، بشكل عام، شديد الانتباه الى ما يقوله". "جملي الشعرية أصبحت شهيرة. جملتان تبدوان متناقضتين، ولكن، في رأيي هما متحاورتان. الجملة الأولى التي أصبحت شبه شعار: "وطني ليس حقيبة وأنا لست مسافر". وبعد سنين، حاورت هذه الحقيبة نفسها وقالت: "وطني حقيبة". لا أرى تناقضاً بين الحالتين. ومن المفيد عندما أدقق في الاحساس بالنفي في نفسي، ان أجد ان منافي لم يبدأ خارج الوطن. "بدأ احساسي بالمنفى في الوطن نفسه". حيفا، القاهرة، بيروت، باريس، المدن تتلاحق على ايقاع النص الشعري، والكلام عن البدايات والمواجهات والاعتقالات والقرار الصعب بمغادرة الوطن، ومن ثم المنفى الأول والمنفى الثاني والثالث والرابع... وبعد ثلاثين عاماً، السماح بالعودة الى الوطن لمدة خمسة أيام: زيارة البيت ومعانقة الأم والجلوس مع العائلة سجلتها فيديو احدى القريبات في لقطات مهتزة من كثرة الانفعال... ويقول الياس صنبر: "التحدي الكبير في هذا الفيلم في كيفية الكلام عن الشعر؟ وجاء التركيز على ايقاع القصائد ذاتها وإبراز العلاقة بين النص الشعري والواقع والأمكنة، لأن قصة المكان أساسية جداً عند محمود درويش. تكلمنا عن هذا الشعر بالذات، عن هذه الأعمال، وليس عن الشعر. يقول الفيلم اشياء كثيرة عن طريقة مقاربة أعمال محمود درويش، عن مقوماته، عن حداثته وكلاسيكيته، عن طبيعة أماكنه... والأهم هو أن صوته يقول كل هذه الأشياء". ويضيف: "الفيلم يرتكز على فكرة أساسية واعتقد أنها تظهر بطريقة لا شعورية. يبدأ الفيلم والولد يقول لأبيه: "الى أين تأخذني يا أبي؟"، وبعد خمسين سنة، يقول الولد لأبيه: "هل رأيت ما حل بي؟"، وينتهي ب: "لا أزال بعيداً عن كلامي". بالتالي، الكل مسجل في الرحيل الأول عام 1948، وفي الدورة الكاملة نرى حياة رجل تمثل أيضاً ما حل بشعبه: عرب اسرائيل، بيروت، صبرا وشاتيلا، منفى بعد منفى، تونس، العودة مع السلطة الفلسطينية، الاتفاق الصعب... ولكن، في الدورة الكاملة، "بين اللحظة الأولى واللحظة الثانية، نرى ولادة انتاج أدبي رائع". وتقول سيمون بيتون: "الفيلم شبّاك صغير عن ما هو هذا الرجل. من أجل عرض يستمر ساعة، الخيارات كانت تمزقنا، لكنني اعتقد بأن الفيلم يعطي الرغبة في التعمق والذهاب الى أبعد، الى شراء كتبه أو ربما قراءته بطريقة مختلفة، والاستماع اليه".