ربما تغيرت روسيا كثيراً عما كانت عليه أيام الاتحاد السوفياتي، وربما طالت التحولات جوانب عدة وواسعة من مناحي الحياة فيها، لكن هناك شيئاً أساسياً يبدو انه لم ينله تغيير يذكر، وهو الطريقة التي تدار بها أمورها على أعلى مستويات السلطة، اذ ما يزال على رأس الكرملين، تماماً كما كانت الحال في العقود الأخيرة من العهد الشيوعي، حاكم عجوز، تنهكه الأمراض بأنواعها، ما هو معلوم منها وما هو طي الكتمان، ينفرد بمقاليد الأمور، محاطاً بحاشية ضيقة من الاتباع، يستيقظ من غيبوبة المرض بين الفينة والأخرى ليتخذ من المبادرات ما يشاء وليربك عمل المؤسسات وفق مشيئته، على ما فعل بوريس يلتسن خلال الآونة الأخيرة، عندما عاد، بعد طول غياب واعتلال، ليقيل حكومة فيكتور تشيرنوميردين، بطريقة فجائية، كانت بالطرد أشبه. وقد فاجأت تلك الخطوة الجميع، فاحتار المراقبون في تأويلها وفي تحديد مراميها وفي استجلاء منطقها، ان كان لها من منطق، وهي حيرة تبدت في روسيا ذاتها قبل سواها. فإذا ما استقام ما يشبه الاجماع على اعتبارها أتاه يلتسن في هذا الصدد برهاناً رأى ان يقدمه، على انه لا يزال السيد الأوحد في الكرملين، وفي عموم روسيا، من اجل ازالة أي انطباع بغير ذلك قد يكون مرضه قد تركه أو أوحى به، فإن التأويلات تتشتت في ما عدا ذلك وتتفرق مسارب، حتى يناقض بعضها البعض. هكذا، وُجد، حتى بين المحللين الروس، من ذهب الى ان اقالة الحكومة، ورئيسها تشيرنوميردين، قد لا يكون موجهاً ضد هذا الأخير، بالدرجة التي قد توحي بها ظواهر الأمور، بل هي قد تكون نوعاً من الحماية له مما ينجم عن مزاولة الحكم من انحسار في الشعبية محتوم، وان اجراء ازاحته ربما كان يهدف تبعاً لذلك، الى اعداده لخوض الرئاسيات المقبلة، سنة 2000، متمتماً بأفضل الحظوظ. ومن يسلمون بهذا، يستندون الى ما كاله يلتسن من مديح لتشيرنوميريدين، قائلاً انه سينكب على التحضير للانتخابات المقبلة. ومن بين القائلين بأن يلتسن انما يعد رئيس الحكومة المقال لخلافته الزعيم القومي المتطرف فلاديمير جيرينوفسكي. البعض الآخر يذهب في التخمين مذاهب أخرى، ليقول ان يلتسن انما يسعى على العكس من ذلك الى ازالة العقبات عن طريق اعادة ترشيح نفسه، مرة ثالثة الى الرئاسة، وانه أراد من وراء اقالة تشيرنوميردين ازاحة منافس له محتمل، خصوصاً وان تشيرنوميردين يستند الى بعض مواقع القوة، داخل الأجهزة وبعض القطاعات الاقتصادية، ويستدل أصحاب هذا الرأي على ذلك بأن الرجل قد بدأ يبدي خلال الآونة الأخيرة نزعة الى الاستقلالية متزايدة، وانه بدأ يسلك سلوكاً رئاسياً، بل "قيصرياً"، أثناء طلاّته الأخيرة على وسائل الاعلام، ناهيك عن انه قد بدا عليه، بما لا يدع مجالاً للشك، بأن قرار اقالته لم يسعده البتة. اما القول بأن تفكير يلتسن في اعادة ترشيح نفسه مرة ثالثة قد لا يكون بالاحتمال الجدي، بالنظر الى سن الرجل والى حالته الصحية وتعهداته السابقة في هذا، فقد لا تكون قرائن يمكن الاعتداد بها، على ضوء التجربة ومعاينة سلوك الرئيس الروسي طوال سنواته الماضية في الحكم. كما ان تنصيبه لشاب في الخامسة والثلاثين من عمره هو سيرجي كيرينكو، رئيساً للحكومة بالوكالة، وهو الذي ليس له من إشعاع غير ذلك الذي يستمده من يلتسن، ولا يقوى بالتالي على المنافسة، ربما كان من بين ما يؤكد هذه التكهنات. أما التفسير الثالث فهو القائل بأن الرئيس الروسي انما أراد وضع حد لتنافس كان يجري ضارياً داخل الحكومة السابقة، بين تيارين قويين: ذلك الذي كان يمثله رئيسها المقال من جهة، وذلك الذي كان يرمز اليه أناتولي تشوباييس، حامل لواء الاصلاحات الاقتصادية، وأحد أقل المسؤولين الروس شعبية، والرجل الذي ما انفكت المطالبة بإزاحته ترتفع ملحة من بين صفوف عديد الأوساط، من جميع الأحزاب والتيارات السياسية، كما من أوساط الأوليغارشيا الروسية، ممثلة بشكل خاص بوجهها الأبرز بوريس بيرزوفسكي. وهناك من ينسب الى هذا الأخير، وهو من كبار الأثرياء، تأثيراً ونفوذاً سياسيين بالغين الى حد القول انه هو الذي أراد ازاحة تشيرنوميردين وحكومته وظل يسعى اليها، حتى تحقق له ما يريد. وإذا كان التغيير الحكومي الأخير قد أحاطت به كل هذه التخمينات فذلك بالنظر الى ما اتسم من سلوك سلطوي أبداه سيد الكرملين، ولما اكتنفه من غموض وقلة شفافية. وذلك ما قد يدل على ان روسيا، بالرغم من مرور قرابة العقد على انهيار نظامها الشيوعي، وبالرغم من توصلها الى تحقيق قدر من التعددية والانفتاح السياسي، وبالرغم من اقبالها على اجراء الاقتراعات بشكل يكاد ان يكون مرضياً، ما زالت في ما يتعلق بمسألة الشفافية هذه، معاصرة للحقبة السابقة على مرحلة ميخائيل غورباتشوف - ذلك الذي حاول إصلاح النظام الشيوعي البائد، معتبراً مسألة الشفافية تلك أحد المداخل الرئيسية من اجل انجاز ذلك الاصلاح. تجربة الاقالة الأخيرة للحكومة الروسية، والطريقة التي جرت بها العملية، اضافة الى مظاهر وسلوكات أخرى عديدة جاءت بها تجربة الانتقال الروسي الى الديموقراطية، دلت على ان ذلك الجانب من برنامج غورباتشوف المتعلق بالشفافية لا يزال راهناً، وانه لم يعد لاغياً لمجرد ان الاتحاد السوفياتي ونظامه الاستبدادي السابق قد انهارا وأصبحا أثراً بعد عين، ولمجرد كون التعددية أصبحت وضعاً قائماً، وان لم تتحول بعد، الى وضع ناجز ذلك ان اقدام صاحب السلطة التنفيذية على اقالة طاقم حكومي أمر في حد ذاته عادي، ليس فيه ما من شأنه ان يتسم بمثل هذا القدر من الاثارة، خصوصاً وان التغيير الحكومي اليلتسيني الأخير، اذا ما نزع المرء عنه طابعه الدراماتيكي، يبدو أكثر محدودية، من حيث الوقع وحتى من حيث الأشخاص، مما قد يبدو عليه للوهلة الأولى. فهو لا يبدو انه ينذر بتحولات جذرية وبتغييرات حاسمة في وجهة السياسة الروسية. فرئيس الحكومة الجديد جيء به تكنوقراطياً مؤمناً باقتصاد السوق، ولا يتوقع له ان يحدث تغييراً يذكر في هذا الصدد، اللهم باتجاه المزيد من الليبيرالية الاقتصادية. كما ان رجلاً مثل وزير الخارجية يفغيني بريماكوف سيحتفظ بمنصبه في الحكومة الجديدة، مما يعني انه سوف لن يطرأ على مسار سياسة موسكو الخارجية أي انحراف، بل ان غالبية أعضاء الحكومة السابقة، ربما حافظت على مواقعها ومناصبها من دون تغيير، مما يجعل عملية استبدال الحكومة تبدو، في نهاية المطاف، أقرب الى التعديل الوزاري. وهكذا، فإن ما جعل اجراء يكاد ان يكون عادياً يبدو بمثابة الانقلاب، انما هو حصوله في مناخ حكم وفي مناخ سياسي يتسمان بذلك القدر من انعدام الشفافية، وليس حصوله في حد ذاته. وما دامت شفافية الحياة السياسية غائبة فإن تجربة الديموقراطية الروسية تبقى غير أصيلة، تحوم عليها شبهة الاستبداد والتسلط، مهما أمعنت في اجراء الانتخابات التعددية، ومهما تكاثرت الأحزاب وتنوعت بها المشارب. بل ربما أمكن القول ان مسألة الشفافية هذه من أوثق المعايير والمقاييس في الحكم على تجارب الانتقال الى الديموقراطية، ليس في روسيا فحسب، ولكن بشكل أعم، خصوصاً وان التجربة دلت على ان أنظمة الاستبداد قد برهنت على قدرة مدهشة على التعايش مع التعددية، في بعض أشكالها، ومع الانتخابات، وما الى ذلك مما يصنف عادة في خانة الممارسة الديموقراطية، من دون ان تضطر الى إرخاء قبضة استبدادها ولو قليلاً.