خططت القيادة الصهيونية لحرب 1948 منذ صدور وعد بلفور. وحددت آنذاك، بإقامة "دولة اسرائيل" على أكبر رقعة من "الأرض" بقدر ما تتيحه القوة العسكرية. وهكذا غدا "احتلال الارض" جوهر الهدف السياسي للحرب. وضعت القيادة العسكرية الصهيونية عدة خطط لمواجهة قوات المقاومة والجيوش العربية. وسميت آخر خطة "الخطة - د" أو داليت، وغرضها: إقامة الدولة، وتوسيع حدودها لتشمل المستعمرات القائمة خارج حدود التقسيم. واعتبرت العدو أنه "قوات شبه نظامية، وجيوش عربية"، ووضعت برنامجاً لاحتلال مدن وبلدات وقرى وأحياء ومواقع فلسطينية. وأعادت تنظيم الهاغاناه والبالماخ، وأسست قوة جوية واخرى بحرية، وطوّرت صنوف الاسلحة الاخرى، وحددت مهمات الألوية ومناطق تمركزها وحركاتها. ودعت الخطة الى "احتلال قواعد امامية في اراضي العدو" سواء أكانت في ما تبقى من الارض الفلسطينية، أم في داخل حدود الدول العربية المجاورة. ونصت على اجبار الفلسطينيين على ترك اراضيهم والنزوح الى خارج بلادهم. استندت الاستراتيجية الاسرائيلية الى شبكة من المستعمرات بلغت، آنذاك، اكثر من 600 مستعمرة، شكلت كل منها نقطة استناد قادرة على الدفاع في كل الاتجاهات. وروعي في بناء الشبكة ان تكون كثيفة ومنتشرة جبهة وعمقاً. وكان لكل مستعمرة دور محدد في اطار خطة الدفاع العامة. وهدفت الاستراتيجية الى تفكيك التنظيم الدفاعي المعادي بواسطة المعركة. وسعت القوات الصهيونية الى السيطرة على طرق المواصلات، تمهيداً للانتقال من مرحلة الدفاع الى مرحلة الاحتلال والتوسع. عبأت اسرائيل كل القادرين على حمل السلاح في الداخل، وجندت اكثر من 20 الف مقاتل في اميركا واوروبا، وتمكنت القيادة الصهيونية، قبل دخول الجيوش العربية، من تأمين الاتصال البري بين مناطق تجمع اليهود، وتعزيز صمود المستعمرات في وجه الهجمات، وتوفير عوامل القتال المرن من دفاع حصين وقوات ضاربة متحركة. ما إن دخلت الجيوش العربية فلسطين، حتى بدأت القيادة الاسرائيلية، مرحلة التعرف الى قدرات الجيوش العربية وخطط عملياتها. وسرعان ما أنشأت نظاماً دفاعياً يتضمن سلسلة قيادات اقليمية، تتمتع كل منها باكتفاء ذاتي في القتال والإمداد والتموين. وركزت القيادة الاسرائيلية على اجبار الجيوش العربية على خوض معارك دفاعية متواصلة لإنهاكها وتثبيتها، على اساس ضرب الجيوش العربية، كل على انفراد، واحداً بعد الآخر، بعد ان تأكدت القيادة من فقدان التنسيق بين تلك الجيوش. واستثمرت القيادة هذه الحالة استثماراً كبيراً، في حين وقفت الجيوش العربية موزعة ومجزأة الى كتل صغيرة هي في وضع الدفاع وتلقي الضربات، من دون ان يكون لها، بمجموعها، هدف عملياتي مشترك في ميدان القتال. استخدمت القوات الاسرائيلية مبادئ الحرب المعروفة آنذاك، وخصوصاً المفاجأة، والالتفاف على الاجنحة أو المؤخرات، والهجوم غير المباشر، وذلك بالتقدم من مناطق غير متوقع التقرب منها، والسرعة في الضرب، والتمويه والخداع. كان وقف القتال في 11/6/1948 وفرض الهدنة الأولى، في منزلة انقاذ اسرائيل من الانهيار، ولم يمضِ على قيامها سوى 27 يوماً، وجنحت الحكومات العربية الى قبول قرار مجلس الامن، تجنباً لخلق مشكلة دولية تتجسد في احتمال تكوين قوة دولية يتولى مجلس الامن تأليفها وارسالها الى فلسطين لتطبيق احكام قرار وقف القتال. فحين صدر القرار، كان الجيش العراقي وصل الى بعد 16 كلم شرقي تل ابيب، والجيش المصري على مسافة 30 كلم في جنوبها. وعبر الجيش السوري نهر الاردن عند مستعمرتي شعار هاجولان ومسعدة. ودخل الجيش اللبناني قَدَس بعد المالكية. واشرفت طلائع جيش الانقاذ على الناصرة. في مقابل هذه الحدود التي رسمتها الجيوش العربية على الارض، كان الجيش الاسرائيلي، بألويته الاثنى عشر، بلغ حدود الاعياء، حتى غدا بعض وحداته عاجزاً عن العمل، ولم يعد لديه مخزون كافٍ من الاسلحة والذخائر يعوض به ما خسره في قتال الاسابيع الاربعة. استغلت اسرائيل شهر الهدنة، فاستقدمت اعداداً كبيرة من الخبراء العسكريين من اوروبا واميركا، ومن المقاتلين المتطوعين والمرتزقة، وبدأت النجدات تتدفق من دول الكتلتين الغربية والشرقية، خصوصاً الاسلحة والذخائر، حتى بلغ حجم الجيش الاسرائيلي يوم انتهت الهدنة الاولى 106 آلاف ضابط وجندي، مقابل 40 الف ضابط وجندي عربي. ما ان استؤنف القتال يوم 9/7 لمدة تسعة ايام، حتى امتلك الجيش الاسرائيلي زمام المبادأة. واستمر في ذلك حتى آخر طلقة في الحرب التي توقفت في 13/3/1949. من أبرز ما اتصفت به مرحلة القتال الثاني، تحقيق الجيش الاسرائيلي، اهدافاً جزئية تمثلت في اقتلاع الشعب الفلسطيني من أرضه، وانجاز مشروع اقامة الدولة، ومحاصرة القوات المصرية في الفالوجة. واستثمر الجيش الاسرائيلي تفكك القوة العسكرية العربية، وتصدع جبهاتها. فقاتل جيوشها فرادى، الواحد تلو الآخر. * الاستراتيجية العسكرية العربية: نلاحظ لو عدنا الى ميثاق جامعة الدول العربية 22/3/1945 للاحظنا انه لم يكن للعسكر فيه شأن. ولم يكن للشؤون العسكرية او الدفاعية أو الامن القومي اي تلميح او تصريح، على رغم ان الميثاق لم يخفِ عطفه على شؤون الجوازات وتسليم المجرمين. وكان ذلك احد الاسباب التي عطّلت اتخاذ اي تدبير للتعاون العسكري في الوقت المناسب. وما يسترعي النظر ان مؤسسي الجامعة، هم انفسهم، بعد ثلاث سنوات من اهمال شؤون الدفاع المشترك، برزوا كقادة استراتيجيين على المستويين السياسي والعسكري، على رغم انهم كانوا يدركون بعض مخاطر الغزوة الصهيونية. واذا ما اخذنا في حسابننا المعنى العلمي لمصطلح "الاستراتيجية" نخلص الى اقتناع بأننا لا نستطيع القول إنه كانت هناك استراتيجية عربية لحرب 1948. بيد أن هذه الحرب وقعت وسبقتها مرحلة من الصراع المسلح الشعبي. وفي تلك الحرب، لم تكن تحركات الجيوش العربية ردود فعل فقط، وإنما كانت، احيانا، افعالاً. وهي حينما قاتلت، وهادنت، كانت تفعل ذلك تطبيقاً لاستراتيجية ما، مخططة او غير مخططة. وتأسيساً على ذلك، لا نستطيع ان ننكر انه كانت هناك استراتيجية عربية شاملة، انبثقت منها استراتيجية عسكرية، مهما كانت اسس تلك الاستراتيجية ومبادئها وخططها باهتة او ضعيفة او غائبة، ومهما كانت مفاهيمها عاجزة، ومهما كانت الفروق بين الخطط والتطبيقات شاسعة. غير اننا نستطيع ان نؤكد انه لم يكن للجيوش العربية نظرية في القتال، ولا مذهب عسكري موحد، بمثل ما كان لدى الجيش الاسرائيلي، يضاف الى ذلك ان كفاءة الجيوش العربية للقتال لم تكن في المستوى المطلوب. من اجل توضيح هذه المعالم، وتوثيقها، نشير الى النقاط الآتية: 1 - الوعي الاستراتيجي: انطلقت الملامح الاولى للفكر الاستراتيجي السياسي - العسكري العربي من مؤتمر القمة في انشاص 28-29/5/1946 حين رأى الملوك والرؤساء العرب "ان الصهيونية خطر داهم" وقرروا "العمل على تحقيق استقلال فلسطين". وتأسيساً على ذلك قرر مجلس الجامعة العربية بلودان، 8-12/6/1946 عدم منح امتياز نفطي جديد للدولتين البريطانية والاميركية، ومقاطعتهما مقاطعة ادبية، والنظر في الغاء ما لهما من امتيازات في البلاد العربية. تتابعت دورات مجلس الجامعة. وكان خطاب الرفض والمقاومة يتصاعد من دورة الى اخرى، حتى قرر المجلس عاليه 7 - 15/10/1947 "اتخاذ احتياطات عسكرية على حدود فلسطين". وفي اثر صدور قرار التقسيم، قرر رؤساء الحكومات العربية القاهرة 12 -18/12/1947 "ان يتخذوا من التدابير الحاسمة ما هو كفيل بإحباط مشروع التقسيم. انهم وطدوا العزم على خوض المعركة". وجاء قرارهم هذا بعد ان درسوا تقرير رئيس اللجنة العسكرية العربية، الذي قال ان قوة الصهيونيين لا تقل عن 60 الف مقاتل، وانه لا يمكن التغلب عليهم بعصابات. وطلب حشد الجيوش العربية على مقربة من حدود فلسطين، وتشكيل قيادة عامة موحدة، لكن رؤساء الحكومات لم يعيروا التقرير اي اهتمام. مضت على قرار رؤساء الحكومات اتخاذ التدابير لاحباط مشروع التقسيم اربعة اشهر، سقطت خلالها مواقع فلسطينية كثيرة بين يدي العدو. فاجتمع مجلس الجامعة 12/4/1948 وقرر دخول الجيوش العربية الى فلسطين. وتلا ذلك اجتماع رؤساء الاركان في عمان 14/4/1948 وطلبوا إعداد ست فرق كاملة التنظيم والتسيلح، وستة اسراب من الطائرات المقاتلة والقاذفة، وتشكيل قيادة موحدة، ووضع خطة عمليات موحدة. بيد أن مجلس الجامعة، الذي كان مجتمعاً في عمان في الوقت ذاته، رأى ان تشرع الجيوش، بما هي عليه، بالعمل في فلسطين، معتقداً ان حشد الجيوش وتحركها سيؤديان الى سيطرة الرعب على الصهيونيين، وتدخل الدول الكبرى لإرغامهم على قبول المطالب العربية. واصل رؤساء الاركان اجتماعاتهم في عمان، ووضعوا خطة العمليات الموحدة، التي تعرضت، لاحقاً، لتغييرات جذرية، فرضتها القيادة العامة التي تقرر يوم 11/5/1948 أي قبل دخول الجيوش الى فلسطين بأربعة ايام ان يتولاها الملك عبدالله. وسمي اللواء نورالدين محمود العراق نائباً له. وتطورت ملامح الاستراتيجية العسكرية العربية بعد ان اقترحت سورية في شباط فبراير 1948 ان تعقد دول الجامعة معاهدة تحالف عسكري لإنشاء دفاع مشترك. بيد أن الاقتراح غرق في كومة الاحداث المتتابعة وبدلاً من تنفيذه، تواصلت ملامح الاستراتيجية تتراكم بمرور الزمن على الشكل الآتي: التهديد باتخاذ الوسائل للدفاع عن فلسطين، التهديد بحرب تحرير شعبية، التهديد باستخدام القوة، التهديد بحرب يشنها عرب فلسطين وبعمل عربي حاسم يدفع العدوان، حشد القوات على حدود فلسطين، انشاء قيادة عامة لكل القوات النظامية وغير النظامية، دخول الجيوش العربية فلسطين مقتبسات من قرارات مجلس الجامعة العربية. 2 - خطة العمليات: لكل خطة عسكرية، سواء كانت استراتيجية او عملياتية أو تكتيكية، مقومات محددة. واذا ما تقصينا هذه المقومات في الخطط العسكرية العربية على مستوى القيادة العامة في مقرها في عمان، فإننا لا نجد معظمها متوافراً، بل ليس هناك دليل او مؤشر يؤكد الوجود المادي لهذه الخطط. كما لم تنشر اي جهة عربية شيئاً عن هذه الخطط، وكل ما في الامر ان اجتماعات سياسية وعسكرية مشتركة عقدت في مرحلة الإعداد للحرب، وفي أثنائها، تداول فيها المجتمعون شؤوناً عسكرية تتعلق بالعمليات، ثم جرى التصريح بهذه الشؤون وليس ثمة مصادر اخرى، حتى اليوم، لهذه العبارة "الخطط العسكرية العربية" سوى هذه التي أشرنا اليها. تجمع المعلومات على ان رؤساء الاركان التقوا في دمشق في 10/5/1948 ووضعوا خطة حركات الجيوش على المحاور الآتية: 1 - الجيش اللبناني: يدخل فلسطين من رأس الناقورة باتجاه نهاريا وعكا. 2 - الجيش السوري: على محور بنت جبيل - صفد - الناصرة - العفولة، ثم جنين، ويلتقي الجيش العراقي. 3 - الجيش العراقي: يدخل من جسر المجامع على نهر الاردن نحو مستعمرة غيشر كوكب الهوى والعفّولة ويلتقي الجيش السوري عند جنين. 4 - الجيش الاردني: يدخل من جسر الشيخ حسين عبر الاردن الى بيسان والعفولة. 5 - الجيش المصري: يدخل من منطقة غزة والنقب الى خط عرضاني يمتد من تل ابيب الى بيت لحم. أدخل القائد العام الملك عبدالله ثلاثة تعديلات كبرى على هذه الخطة، اذ غيّر محاور عمليات الجيوش السورية والاردنية واللبنانية. وبعد اتصالات وتدخلات ضاغطة، اقتنع الملك بإلغاء هذه التعديلات وتنفيذ الخطة كما وضعت في اجتماع دمشق 10/5. لكن الجيوش كانت تحركت، ولم يعد باستطاعتها ان تنفّذ الإلغاء، وكان من نتيجة التعديلات ان سقط من الخطة التقاء الجيشين العراقي والسوري عند جنين، فانكشفت ميسرة الجيش السوري، وهو ما دعا قيادته الى تغيير منطقة العمليات، فنقلت قواتها من جنوبي بحيرة طبرية الى شمالها. لقد أدت تعديلات القائد العام الى تفريغ خطة العمليات من محاور العمل العسكري المشترك، فاستغلت القوات الاسرائيلية هذه الحالة، وضربت قطاعاً عملياتياً عربياً بعد آخر. وهكذا دخلت الجيوش العربية فلسطين فجر 15/5/1948 ولم تكن خططها العامة والخاصة، ولا استعداداتها وتعبئتها وحشدها، ولا محاور عملياتها ولا تمركزها وانتشارها وحركاتها، في الحد الادنى من المستوى المطلوب والمعروف لمثل تلك الحرب التي بدأتها. توقف القتال بعد اربعة اسابيع، ثم استؤنف تسعة ايام، وكانت مدة القتال الثانية اسوأ من الاولى، وادى ذلك الى انتقال الجيوش العربية من حال المبادأة والهجوم في المرحلة الاولى، الى حال الدفاع في المرحلة الثانية، اذ كانت الجيوش العربية الخمسة تعاني، كلها، نواقص في عديدها وتسليحها وتدريبها، وان اختلفت المعاناة من جيش الى آخر. ولو أخذنا الجيش المصري كنموذج، لوجدنا ان معاناته جسدها قائد القوات المصرية في فلسطين، في تقارير متتابعة رفعها الى القيادة العامة في القاهرة، وقال في احدها انه "غير مسؤول عن اي كارثة قد تحل بالقوات في المستقبل نتيجة تكليفها بأزيد من طاقتها" واشار في احد التقارير الى "خطورة محاولة تحقيق الاغراض السياسية دون النظر بعين الاعتبار الى الموقف العسكري". 3 - عُدّة الحرب: يمكن القول ان قسماً من الجيوش العربية اشترك في الحرب، وليس دقيقا القول ان الجيوش العربية او الدول العربية اشتركت في الحرب. ذلك ان الدول العربية التي قررت دخول قواتها فلسطين لتمنع تنفيذ قرار التقسيم، لم تتخذ، لا جماعة ولا فرادى، اي تدبير يدل على انها مقدمة على حرب او صراع مسلح. وفي حين كان الجيش الاسرائيلي يعمل لتنفيذ خطة استراتيجية واحدة، بإمرة قيادة واحدة، كانت الجيوش العربية من دون خطة موحدة، ومن دون قيادة واحدة، حتى قبل خمسة ايام من بدء الحرب. وحين سمي الملك عبدالله قائداً عاماً، لم تعين له هيئة اركان مشتركة، ولم يكن مقر قيادته في عمان مزوداً بشبكة كاملة من وسائل القيادة والسيطرة والاتصال السلكية واللاسلكية، حتى ان نائبه اللواء نورالدين محمود استقال من منصبه في 8/6/1948. 4- إرادة القتال: توافر ارادة القتال شرط اساسي لتنفيذ خطة العمليات. ومن دونها تدخل اي خطة باب الهزيمة. ومن العلامات التي ادت الى ضعف ارادة القتال لدى القيادات السياسية العربية آنذاك: خشية بعض الحكام من ان يكون موضع شك اذا لم يرسل جيشه الى فلسطين، وان الحرب في فلسطين ستكون تظاهرة سياسية وليس عملا حربياً، وان اليهود سيقبلون شروط العرب. ويفهم من محاضر اجتماعات مجلس الجامعة واللجنة السياسية ان القادة كانوا على قناعة ان الجيوش لن تحتاج الى خوض قتال فعلي. وهذا ما قاله امين عام الجامعة لرئيس الجمهورية السورية عندما سأله عن احتمال دخول مصر الحرب "ان المعلومات التي لدي تقول ان الجيش المصري سيقف على الحدود في حال استعداد، ولكنه لن يدخل"، وقبل الحرب بأربعة ايام، 11/5/1948 كتب الامين العام الى وزير الخارجية: "في وقت تحرجت فيه البلاد العربية واضحت حكوماتها نتيجة انفعال الرأي العام، لا تستطيع التخلف عن التقدم بجيوشها مخافة الثورات الداخلية ... في الوقت الذي اعلن الملك عبدالله انه سيتحرك بجيشه يوم 15 ايار مايو مهما يفعل الآخرون، ومعنى ذلك انه اذا لم يتقدم الاخرون فسيحتل القسم العربي، ويرجع مسؤولية الفشل على باقي الدول العربية. وهذا ما لا يستطيع العراق وسورية ولبنان ان تقبله، ولذا قررت الحكومات الدخول يوم 15 ايار مايو بجيوشها الى فلسطين". واذا كانت ارادة القتال قد ظهرت مهزوزة في اطار الجامعة، وفي اطار الدوافع التي كانت تقف وراء اقدام بعض الحكام العرب على الحرب، كانت صورة هذه الارادة اكثر اهتزازاً على الصعيد القطري. ولنأخذ مثلين على ذلك من مصر وسورية. ففي مصر، خطب رئيس الوزراء امام مجلس النواب في 11/5/1948 فقال: "اذا دخلت الجيوش للسلام والنظام واوقفت المذابح فلن تكون هناك حرب ... اما الجيش المصري فكفايته كاملة، واسلحته وافية، وذخيرته متوافرة". وذكر القائد العام للقوات المسلحة المصرية ان رئيس الوزراء اصدر اليه الامر بدخول الحرب في 14/5 اي قبل بدء الحرب بيوم واحد. وعارض رئيس الاركان دخول الحرب لعدم توافر العتاد الحربي. وفي سورية، اقترح رئيس الاركان العامة على رئيس الجمهورية ووزير الدفاع عدم زج الجيش في قتال نظامي، بسبب قلة السلاح والجنود والاكتفاء بإرسال متطوعين. ولم يأخذ الرئيس بهذا الاقتراح. وحينما عقد وزراء الدفاع العرب اجتماعاً في 13/5/1948 في عمان لم يصطحب وزير الدفاع السوري معه اي ضابط وذكر في الاجتماع ان جيش سورية يبلغ 18 الفاً والواقع ان عديده لم يكن كذلك. 5 - الغرض الاستراتيجي: كانت الدول العربية واضحة في غرضها الاستراتيجي، حين حددته بمنع تقسيم فلسطين او تأسيس رأس جسر صهيوني فيها. بيد أنه كانت الى جانب هذا الغرض، اغراض سياسية اخرى سعت الى تحقيقها غير حكومة عربية. وأثر هذا التناقض بين الغرض المعلن والاغراض السياسية الاخرى، تأثيراً جذرياً في الهدف الاستراتيجي لخطة العمليات وفي مسرح الحرب. وخضعت هذه كلها للتأثيرت والعوامل السياسية خضوعاً اكبر من خضوعها للتأثيرات والعوامل العسكرية الصرف. وحينما فقدت الجيوش العربية التنسيق قبل ان تدخل فلسطين. وفقدت بعد دخولها، القيادة الموحدة الفعلية، الناظم الذي يضبط سير العمليات وتحركات القوات. ولم يكن امام كل جيش سوى ان يعمل بمفرده، وبأوامر من قيادته واستمرت الجيوش في هذه الطريقة من العمل، طوال مدة الحرب، اذ انفرد كل جيش بقطاع او جبهة. وتزخر احداث حرب 1948 بشواهد على فقدان التعاون بين الجيوش العربية. ومن الامثلة الطريفة على ذلك، انه كان لدى العراق 8 طائرات ذات قنابل بمواصفات خاصة، وكانت مصر تملك قنابل تصلح للاستعمال على هذه الطائرات، فعرضت مصر ان تأخذ الطائرات، ورأى العراق ان تقدم مصر القنابل، وتشبث كل منهما برأيه، واحتفظ بما لديه.