للمكان اسماء ينسجها قاطنوه بحسب ما يهبهم المكان من صوره. الأشكال الطبيعية تعين على اطلاق الصفات في مظاهرها معنىً أو لوناً: جبال الأصابع الخمس. الجبل الأقرع. الهضبة الحمراء. القرى، والدّساكر، والكُوَر، تتطابق على اسم قاطنٍ أول، أو صفة قاطن أول، أو مظهر من خصائص الخيال الجامع لأهلها، بغور بعيد في تاريخ السلالة، التي تبادلت والمكان مواثيق الإقامة، والمجاورة. وكان من أمانة العقل للمكان ان يحفظ له كرامة سيرورته في الاحوال، فتتحقق للمكان نفسه "الإقامة" في تاريخ الانسان، غير مشردٍ عنه، أو منتهك به. لكن كل هذا افتراض ضروري، في الأرجح، بحثاً عما يتوجب ان يكون عليه تخصيص المكان بعصمةٍ أخلاقية. لقد جرى، ويجري، تغيير الأسماء، باتفاق الجماعات على إنزال قصاص بالمعاني الممنوحة للمكان من جماعات اخرى، بعد تحصيل الغلبة فكراً، أو مصادمةً. وكذلك يجري التغيير باتفاق الأنظمة طرفاً أوحد يجيز نقل المعاني من حيّزها، و"يصححها"، ويقوّمها، أو يعدمها، كي يستقيم لها تأكيد المذهب بقسر التاريخ على "التواطؤ" مع أزلية المعاني المنسوبة الى شعارها، ومع أبدية الصواب في نظرها الى كل ممكن أو محتمل. هكذا تنقلب اسماء الاعياد الجاهلية الى أسماء الاعياد الإيمان، وشوارع الجبابرة الى شوارع أبطال "مناسبين" لفكرة النظام، وأسماء القرى الغريبة الى أسماء أليفة من لغة المسيطر، مع إصدار المراسم باحتكار أسماء الساحات، والملاعب، والحدائق العامة، والمنتزهات، وتوريث المكان أنصاباً على أنقا ض أنصاب، معلنة النسب على شجرة فضائل الحاكم وصفات حكمه العادل دماً عن دم. قصور الحاكم السابق تغدو، في عصمة الحاكم اللاحق، الى "قصور الشعب" الممنوعة عليه. الطريق الموصوفة بخيال الحكايات تغدو طريقاً موصوفة بخيال الحزب، وابتكاراته. تُلغى من التداول اسماء حيوانات بعينها للتشابه بينها وبين أسماء الحاكمين. تُلغى ألفاظ بعينها من التداول على محمل اللمز والهمز. لربما نجت - من إعادة أسماء التأريخ، والتأريخ الى صوابهما - بعض الجبال، والأنهار، والمدن الكبرى، كونها وطدت للمكان "إقامة" في حقيقة الانتساب. قاسيون يبقى قاسيون. سيناء يبقى سيناء. أوراس يبقى. دجلة. الفرات. النيل. دمشق. تدمر. الاسكندرية. طرابلس. عدن. الخ. انما لا يسهو النظام عن "تدبير" مرادف "قوي" يشهد على حضوره إزاء القديم المفروض "قسراً" بالمعنى على "صناعة" النظام للتاريخ، فيستحدث للجبل الفلاني اسماً توأماً: "جبل الشهداء"، وللنهر الفلاني اسماً توأماً: "نهر المسيرة الظافرة"، وللمدينة الفلانية اسماً صفة: "الفيحاء"، "الشهباء"، "أم النخيل" "مهبط السلوى". أما المدن المحدثة مدينة الثورة، والنهر المحدث الصناعي العظيم والسدُّ الجبلي، والبحيرة كلها منذورة للبراكين الثائرة على الجهل، والتبعية، والدونية، فأسماؤها تستقي من الضرع الأم معنى حصولها عن يد الكيان المقتدر على "إعادة الصواب" الى الصيرورات. غير ان التاريخ المدوّن ينزع، بخصائص حفظ النوع فيه، الى توطيد الأسماء الأولى في حافظته، عمارةً وطبيعة، بإزاء ما انقلب منها، وما أُقصي، وما أُلغي، وما استبدل، بإشارات واضحة الى ما كانت عليه وما صارت اليه. ما من شك في ان تغيير الأسماء، في الأمكنة، انقلاب على خيالها. وفي الأطلس العربي، الناحي بنفسه الى مماهاةٍ للزمن، في ماضيه السابق على خصائص "قوميته اللاحقة"، وما تحصّل، أيضاً، من نظر الدين الى المعاني السابقة على سيادته، عواصف من هذا، حتى ليصير السياق الزمني المفعم بانتساب المكان الى شرع حقيقته انقطاعاً في بعض فواصله. فما هو من حوزة العرق "الأصل" الفينيقي، الأشوري، الأكدي، الفرعوني، يتراجع الى شواهد للدرس والاعتبار، بانفصال عن ماهية العرق "اللاحق"، المنتسب الى مصادره النقية - العربية أباً عن جد، كأنما أفرغت السيرورة نفسها مرة لتمتلئ من جديد بحاصل آخر. ومن هذا السفح يجري الإشراف المعتقدي على الأثر بفصل حضوره "المشرق"، كجهد للعقل في ترتيب حقائقه، عن قوام معناه الوثني "المعتم" معرفة ومذاهب. فپ"خير العالم" هو ما ينبني لاحقاً في المقام الطاهر لرسالة الحق المعقودة على "العرق اللاحق"، وما كان خارج هذا الحق المعقود، في "سابق" المكان وزمنه، ينبغي احتواؤه في مراسم بجوهرة "المنجز"، الذي لا ضرورة - ولا ينبغي أبداً - لأن ينتشر كقيمة خارج حدود ما هو ماضٍ يتعارض أخلاقاً، ونظماً، وقوانين، ومذاهب، وتقاليد اجتماع، مع أركان القدسية الوطيدة ومساقاتها. وأسماء الأمكنة حاصل من النظر الى قيم "العرق اللاحق"، التي يتوجب بسطها على الأسماء. قطعاً، ليس في تاريخ أقاليم الأرض شتى مثيل لما تتخذه الأمكنة من ألقابها، ببزوغ قمر الحاكم وفكر حزبه كالذي في أقاليم النطق بالضاد تشبهها الرقعة المستبدة شرقاً. فالمدينة ظل القائد، والساحة شبحه، والشارع أزرار سترته، والدولة - برمتها - قبعته. الأسماء فتات خبز بين يديه يرميها لعاصفير الزمن، والمكان الذي يتسمى بها يُغذي الوقت خلوداً. ولأنه عريق، ونقي الأرومة، فليس للمكان أو ينحو - في يديه - الى خلط السياقات الزمنية، بل يتوجب "تطهير" السيرورة، وانتقاء الأصلح من الخصائص "الجديرة" بالمقام الطاهر للعرق. هكذا تترجم أسماء الأمكنة الى عربية صرفة، وتعاد الصفات الى حظيرة الفكرة القويم للحزب - ممثل الجماعات بعقد الدم. قبل حين من الوقت كلّم كرديٌّ كردياً، فساءله من أين أنت؟ فرد: من القحطانية. أي من بلدة لها نسب الى عربي قح، جد عريق. واذا استفسره عن موقعها أوضح الآخر ان اسمها كان "القبور البيض". في ثلاثة عقود تهشم اسم البلدة مرتين: مرة بترجمته الى "القبور البيض" عن أصله الكردي: "تربسبي"، ومرة عن استبداله كلياً بنسب الى تاريخ "أعيد الى صوابه". عشرات الاسماء المخصوصة بالتدليل على "إقامة" الكردي في المكان، اعُتقِلتْ، ثم "نُفيت" عبر الترجمة الحرفية، ثم أُعدمت في منفاها، في بلد عربي من شمال هذه المنظومة. أبقي على اسماء الحقب الأثرية، وملوكها، ومواطن الرمم، لكنها أُعدمت في ما يدل على قوم حيّ بعد، في أمكنة حية بعد، صيّرها الوقت في الخرائط خلط عشواء، تتخبط بها حدود خبط عشواء. وفيما أجيز النظر الى أسلاك الامم العربية في الأرض على أنها "مزق" مقصودة في الجغرافيا، صنعها غدر "الآخر"، وسياسة "الآخر"، ومطامع "الآخر" وبغي "الآخر" وكيد "الآخر"، لم يمكن التاريخ من الاعوال على لغة قاطنيه، في سطر من الأرض ضمن النص الكبير، كي يبرهن للمكان حضورهم: هكذا، أبداً، كان المكان في انتظار "العرق اللاحق" حتى يستتب له مديح العراقة، ومديح الأصل الذي هم حقيقته الناضجة بلفح وجودهم. المكان، أبداً، بلا شعب "آخر"، كي يمتلئ بالموعودين، أمكنة كردية بلا أكراد من ضرورات الترجمة الى عربية صرفة. موزان ستصير "تل العرب"، وحرم رش ستصير "صافية" وموسيسانا ستصير "الدجاجة الخضراء" وهرم شيخو ستصير "قرية بدر" وقولو ستصير "المرمرية"، وسيركه ستصير "المحبوسة"... الخ. كان ممنوعاً تسجيل كردي، في السجلات الرسمية، باسم كردي. العروبة تقتضي نقلة في خصائص الدم. وها هي تقتضي نقلة في خصائص التراب. الأمر بسيط لا يستدعي السخط، أو الاستياء، لأن الكل سواسية في رحاب العدل المنتصر، اسماء شخصية، واسماء أمكنة: حاضر الوقت هو أصل ماضيه، وعلة وجوده. ذاكرة بأكملها تمحى راهناً، على هدي المحو في مراتب "بعض" التاريخ من قبل. سيلتفت الاحفاد الى اشباح أجدادهم فيرونها في الشطر المعلق من سماء البرزخ، بلا اقامة في مكان. ولأن التاريخ الحاضر يغفل، بقوة اللسان العربي المستتب على بسطته القومية الباذخة، كل ما شأنه التذكير بوجود "آخر" ذي استمرار، وليس كسابقه "المنقطع" في مفصل ما من مفاصل اندثار الامم ، فأبقي له نصٌ في المصنفات، فلن يستبقى سطرٌ لبوغي بريفا على هضبة موزان، التي عثر في جوفها على كنوز في جرار. ستكون النقلة في التعريف أن الرومان، الذين نزحوا الى فضائهم مغلوبين، تركوا النفائس هدايا في قرية "مهجورة" حتى مجيء أحفاد عمرو وزيد، فلم يسبقهم الى بسط الكنه العريق على الهضبة، هناك، أحد قط. أي ذعر يكمّم الحقيقة بعلم الحزب؟ إنها أسماء كردية لا تخيف أحداً، فلماذا يجردون الأمكنة من إقامتها؟