النموذج هو الحداثة الغربية، بحلتها الأميركية الراهنة. ومقياس الحكم ومعياره ومرجعيته على واقعنا ومجتمعاتنا وانساننا وتقاليدنا وتراثنا وقيمنا وديننا هو تلك الحداثة، فما يجري على السطح هناك أو ما يمكن أن يسمى الحداثة الرسمية، أو سلطتها التي تقودها، مثلا، القوة المتحكمة باتجاهات التقنية والسوق والسياسة والثقافة والإعلام هي التي تحدد نموذجنا ومعيارنا حتى نكون حداثيين، هي هدايتنا في فهم مجتمعاتنا والحكم عليها، وهي اداتنا في تقويم أخلاقنا وعاداتنا وقيمنا وأفكارنا وانساننا عموماً. فعندما نتحدث عن المجتمع المدني يمثل أمامنا نموذج المجتمع المدني في الغرب وما يقوم عليه من مؤسسات. وهو ما يؤدي فوراً الى اقصاء كل اساس تقليدي، أو مكون اجتماعي عندنا، أو رابطة عائلية، أو قبلية، أو ما شابه من معادلة بناء مجتمع مدني حديث. فالمطلوب فرد من نمط الفرد في الغرب، ومؤسسات من نمط المؤسسات في الغرب، وقيم وعلاقات من نمط القيم والعلاقات في نموذج الحداثة الغربية حتى يصبح عندنا مجتمع مدني وندخل الحداثة. وإذا جرى الحديث حول الديموقراطية والتعددية والأحزاب والانتخابات والتداول على السلطة، فالنموذج هو الديموقراطية الغربية. وينطبق هذا النهج على كل القضايا والمسائل والوقائع. بكلمة النموذج هو الحداثة الغربية، بحلتها الأميركية الراهنة. وهي المرجعية أو المعيار عند تقويم واقعنا ومجتمعاتنا وانساننا وتقاليدنا وتراثنا وقيمنا وتاريخنا وديننا. تتطلب هذه العملية في الانتقال من حالتنا الراهنة الى الحداثة، ان نقوم بنقد صارم، جذري، شامل، شجاع لذاتنا، لمجتمعاتنا، لتاريخنا، لتراثنا، لقيمنا، لانساننا، لتقاليدنا، لمرجعيتنا الاسلامية. ولا ينبغي للعقل العلمي، والمنفتح، والمتسامح، والذي يعترف بالآخر ويحترم حقوق الانسان، ألا يكون نقديا يخترق كل حجب الاوهام والمحرمات والأساطير. فالمثقف الحديث الذي يستحق ان يسمى مثقفاً هو المثقف الناقد، فالنقد أس الثقافة، والشرط الى المعرفة. على أن الاشكال في هذا الاشكال ان الكلام على النقد يمضي في طريق ذي اتجاه واحد، وهو نقد مجتمعاتنا وانساننا، وكل ما يتعلق فينا، نقداً صارماً بلا هوادة. اما نقد الحداثة الغربية، لا سيما في طبعتها الأميركية الداهمة، فليس مطلوباً أو ممكناً، ولا علاقة للمثقف الحديث به حتى يستحق اسم المثقف. فالمثقف الناقد لا يكون ناقداً للحداثة، والنقد ليس أس الثقافة والمعرفة ها هنا. بل ان نقد الحداثة قد يسقط عن المثقف سمة المتثاقف أو صفة الثقافي. وهكذا يخفت كل ذلك الضجيج، وتتبخر كل الدروس، حول النقد، والمثقف الناقد عندما نأتي الى موضوع الحداثة، فكأنما الحداثة فوق النقد، وكأنما النقد غير ذي أهمية أو موضوع عندما يتعلق الأمر بنقد القوى المتسلطة على التقنية في تحديد اتجاهاتها واستخداماتها، أو نقد القوى الرسمية المسيطرة التي تطرح القيم والأفكار والمعرفة والأخلاق والسياسات التي يراد ترويجها تحت راية الحداثة أو ما فوق الحداثة أو ما بعدها. ثم أين "نظرية" ضرورة طرح التساؤلات. أو "نظرية" نزع القدسية عن أي شيء ووضعه تحت المساءلة والتساؤل؟ لماذا لا نراها مطبقة على الحداثة؟ فلماذا لا نسمع بتساؤلات تتعلق بالجانب الانساني، بالمحتوى، بالاتجاه، بمصير العالم، وذلك عندما نتناول موضوع الحداثة، وما تحمله من مخاطر وربما كوارث على الانسان والمجتمعات البشرية كافة، بل يعامل بتجاهل، أو ازدراء، حتى كل نقد للحداثة الراهنة يوجهه مفكرون ومثقفون وعلماء وفلاسفة من أهل الغرب أنفسهم لها. فالتساؤلات الناقدة هنا ليست من الحداثة في شيء. ولا تناقش بالعمق الكافي ولا تؤخذ بالجدية التي تستحق. فقضايا مصير الانسان، أو مصائر مئات الملايين بل آلاف الملايين من البشر لا توضع في الميزان عند تقديم الحداثة ولا عند تقويمها. اما اشكالات الحداثة في مجالات الصناعة والتقنية مع البيئة والطبيعة وصحة الانسان البدنية والعقلية والعصبية فلا تجد طريقها الى النقد لتدخل الميزان في تقويم الحداثة الراهنة في حلتها العولمية الأميركية. وهذا ما يغيّب البحث في مصائر شعوب العالم الثالث، خصوصاً، وشعوب العالم كله عموماً، عند طرح موضوع العولمة وهي تمرر من خلال المطالبة بابتلاع الحداثة بلا مساءلة. ثم على ذلك قس كل ما يتعلق بمسائل الحركة والسرعة والاتجاه والهدف في تلك الحداثة. إن المنهج هنا واضح تماماً إذ يُشهر سلاح النقد بتاراً بحق كل ما عندنا وكل ما فينا حتى لا يبقى منا شيء يستحق ان نرتكز اليه، أو نتمسك به، أو نطوره لكي نلقي بأنفسنا في احضان الحداثة لتفعل بنا ما تشاء وتذهب بنا حيثما تريد. وليس لنا ان نعرف ما هي، أو نضعها تحت النقد والمساءلة، أو نطلب أن ندخلها في نطاق المعرفة لا في نطاق الايديولوجية. لأن الحداثة، ومن ضمنها العولمة، تحولت الآن الى أشد ألوان الايديولوجيا صرامة حتى أصبحت مطلوبة لذاتها بلا نقد أو مساءلة. أما قوتها فلا تأتي الا من مصدر واحد هو النقد الذي وجه الى ذاتنا بمعناها الواسع، وهو نقد يستند الى نموذج خارجي معياراً ولا يقوم على أساس معرفي من داخل الظاهرة نفسها. ومن ثم لا تأتي قوتها من نقد يقوم على أساس معرفي من داخلها، ما دامت كل التساؤلات الأساسية قد استبعدت وتم تجاهلها بل أصبحت الحداثة، عملياً، محرماً أو تابو يحرسه ارهاب فكري ضد كل نقد أو مساءلة. وبهذا يكون الذين لا يكلون من القاء الدروس والمواعظ على أهمية النقد والمساءلة والمنهجية العلمية في دراسة الظواهر والتاريخ ينقلبون الى لانقديين ولامتسائلين ولاعلميين ولاتاريخيين عندما يتعلق الأمر بالحداثة العولمية المتأمركة الآن. وتراهم اما يضيقون ذرعاً حين يُجبهون بأسئلة سياسية حول الهيمنة والنهب العالمي والصهينة والدولة العبرية فيرون في ذلك خنقاً أو استبعاداً للثقافي عبر تقديم السياسي. واما تراهم يقولون نحن لا ننكر ما تحمله الحداثة المذكورة من سلبيات، ولا ننكر ما ارتكبه الاستعمار الغربي من جرائم، وذلك بقصد المصادرة العاجلة، منذ البداية، لنقد الحداثة أو طرح التساؤلات حولها، ثم الانتقال فوراً الى التعامل والحداثة باعتبارها النموذج. هذا النهج يخطئ مرتين. ففي المرة الأولى يخطئ في منهجية نقد الذات حين يكون نموذجه الحداثة الغربية ويتخذها معياره ومقياسه حين يتحدث عن جمودنا ورتابتنا ومختلف جوانب حياتنا. ويخطئ في المرة الثانية حين لا يتعامل وتلك الحداثة تعاملاً نقدياً. ولم يطرح، أو يأخذ بكل جدية، مجموعة التساؤلات التي تثيرها، أو المثارة حولها.