إذا كان الأدبيات "الحداثية-العربية" المعاصرة، تجعل من مسألة "حقوق الإنسان"، وفي سياق استلهام التجربة الغربية ، ركيزة أصيلة في البنية "المعرفية-العقدية" للمثقف الحداثي أو العقلاني العربي، فإن ذلك يفترض أن تظل هذه الركيزة حاضرة ومستقلة، عن التحيزات الايديولوجية، اثناء ممارسة النقد التاريخي. بيد أن هذا "الحضور المستقل" يهدره المثقف الحداثي في مواضع كثيرة. ولعل من أكثر "التمثلات" غنى وثراء لاستجلاء هذه الظاهرة المعايير التي يحتكم إليها في تقويم تجربة محمد علي 1805-1840. إذ لوحظ أنه ينتقي منها "الجانب العلمي" فقط، ويتحدث عنه بإعجاب، جاعلاً من هذا "الجانب" معياراً وحيداً في تقويم التجربة إجمالاً!. بينما ظل الجانب "الحقوقي- الانساني" في تجربة محمد علي، مُستبعداً أو مسكوتاً عنه، أو تجري إحالته على "تفسيرات" لا سند لها إلا "المكابرة"، ولا هدف لها إلا تبرئة "الجاني" إن جاز التعبير! ان مذبحة المماليك، الشهيرة، التي وقعت العام 1811 على سبيل المثال، قلما نجد بين النخب أو التيارات التي تأطّر مضمونها "المعرفي- الايديولوجي" من خلال الارتباط روحياً واخلاقياً بالغرب مَنْ يرى "المذبحة" على أنها كانت "مؤامرة" مكيافيلية. بل إن ما يدعو إلى الدهشة أن ثمة إ جماعاً بين هؤلاء جميعاً، على أنها كانت ضرباً من ضروب "الشطارة" أو "المهارة" السياسية! قس على ذلك نظرته إلى علاقة محمد علي بالمصريين. فالمثقف هذا شديد الوعي، بلا شك، بالشكل الذي كانت عليه هذه العلاقة ولا يخفى عليه أن أقل ما يقال عنها إنها اهدرت "حق المواطنة" لأهل البلدين الاصليين، وأنها كانت علاقة قطيعة بين طرف دخيل "حاكم - استعلائي" وآخر أصيل "محكوم - دوني"، وكان الأخير في فلسفة الحكم التي ارساها الأول، مجرد "رعية" ليس عليه - بلغة الجبرتي - "خروج" أي مشاركة في الجيش فيقتصر دوره فقط في أداء "علائف العسكر"!. كيف -إذن - ينظر المثقف العربي الى "اقصاء المصريين" عن المؤسسة العسكرية المصرية و"مشاركة الدخلاء" فيها؟!. ان مؤرخاً كبيراً مثل طارق البشري، وقبل ان يتحول من "اليسار" إلى "الإسلام" استبعد عن خطابه أية إدانة مباشرة لهذه الانتهاكات، إذ كتب منظراً أو مُبرراً لها قائلاً: "فما لبث فور توليه السلطة - يقصد محمد علي - أن أشدد بالقصور الذاتي، نمط الحكم القديم، حيث يقوم الانفصال القاطع بين النخبة الحاكمة، وبين المحكومين". ولا شك في أن إستخدام عبارة "القصور الذاتي" التي وردت في النص، تعني على المستوى النفسي "الممارسة اللاشعورية"، وهي على"هذا النحو، قد يسّرت للكاتب الافلات من إدانة نظام محمد علي. المعالجة نفسها تقريباً، نلحظها في تفسير عدم إكتراث محمد علي بالتنوير السياسي، الذي نقله الطهطاوي العام 1830 في كتابه الشهير "تخليص الابريز" من فرنسا. إذ لم يبد - كما يقول البشري - "أن الباشا تحركت واحدة من خلجاته لحديث الطهطاوي" رغم ما كان يتمتع به الأخير من سلطة استشارية بالغة الأهمية بالنسبة للأول. وهذه اللامبالاة أو اعراض الباشا عن "الاصلاح السياسي" الذي كان يُبشر به أحد أهم المقربين إليه، دافع عنه لويس عوض بتأويلات رأت ان الباشا، لم يكن هو المنوط به انجاز مشروع الاصلاح الذي دعا إليه الطهطاوي، فهو كان - كما يرى لويس عوض - مجرد وال في القاهرة، بينما الاصلاح كان منوطاً ب"الباب العالي" في اسطنبول الذي يملك سلطة التغيير، وإملاء الشروط على عماله. ولا ريب في أن الهدف من هذا التأويل، هو تبرئة محمد علي وإدانة السلطان العثماني. وهذه المعالجة تكاد تكون قاسماً مشتركاً بين جل النخب "الفكرية - الحداثية" في العالم العربي، إزاء قائمة الانتهاكات الأخرى وازاء العنف أو القهر السياسي والاجتماعي الذي مارسه محمد علي على المصريين. ولكي نكون أكثر قرباً من الدوافع "السيكولوجية" التي تختمر في أتونها هذه المعالجة، فإن ذلك يقتضي الاشارة إلى أنه اذا كان محمد علي يمثل مشروعاً ل"ماضٍ" كان في سبيله إلى "النهوض"، فإن "التأثير النفسي" لهذا المشروع ظل حاضراً حتى الآن، ولم ينقطع إذ لا يزال يدغدغ إصلاح ومشاعر الحاضر "المتخلف". ومن ثم ينزع المثقف الحداثي العربي، نحو التستر على انتهاكات نظام محمد علي لحقوق الإنسان، لمجرد أنه أنجز- ولفترة قصيرة - أسساً لمشروع حضاري، خُيّل للبعض أنه دخل معترك المنافسة مع "الآخر - المتعالي" الذي أصبح في ما بعد، با لنسبة إلى المثقف الحداثي أو العقلاني حُكماً يتوق إلى تمثله، وفي الوقت نفسه "الجلاد" الذي لا يزال يجلد "الذات -العربية" باستعلائه الحضاري وازدرائه للآخرين. ولعل أخطر ما في هذه الظاهرة أنه من الممكن أن يُؤسس عليها الاعتقاد بأن المشروع السياسي أو الحضاري الذي يبشر به "الحداثيون" العرب، يعطي الأولوية للنهضة "العلمية" على "البعد الانساني" في هذه النهضة. أو أنه يجعل من المباحات، إهدار حقوق الانسان، إن صادف أو قابل هذا الإهدار، صعوداً، وإن كان نسبياً، في مؤثرات التنمية الوطنية!