اضاف مقتل ثلاثة جنود اسرائيليين في جنوبلبنان نهاية الشهر الماضي صفحة جديدة الى النقاش الذي لا ينتهي داخل اسرائيل حول البقاء او الانسحاب من جنوبلبنان. انها المنطقة التي تدور فيها الحرب "الساخنة" الأخيرة بين العرب والاسرائيليين، والتي تبين ان دبابات "ام 60" المتطورة واحدث بطاريات المدفعية لا تشكل رداً على قوات المقاومة اللبنانية ومعنوياتها العالية. قتل في جنوبلبنان السنة الماضية 39 جندي اسرائيلي. وكان هناك ايضاً اصطدام الحوامتين العملاقتين في اسرائيل الذي ادى مقتل 73 جندياً. وقالت تقارير ان هؤلاء كانوا من القوات الخاصة في طريقهم الى مهمة لم يكشف عن طبيعتها داخل لبنان. ومنذ 1985 بلغ عدد القتلى في "الحزام الأمني" الذي تحلته اسرائيل أكثر من مئتي جندي، وجرح نحو 700 غيرهم. انها ارقام كبيرة بالنسبة الى بلد لا يتجاوز سكانه 5.5 ملايين نسمة، وترتكز العقيدة العسكرية فيه على القيام بكل ما يمكن لتجنب الخسائر البشرية. وكان نحو الف من كبار ضباط الاحتياط الاسرائيليين حثوا الحكومة على الانسحاب من جانب واحد. وقال جنرال الاحتياط شول غيفولي في تصريح: "اذا لم نقم بخطوة ايجابية سيستمر هذا الوضع سنوات. ان من المقبول دفع الثمن اذا كان هناك ضوء في آخر النفق. لكن لا فائدة من البقاء اذا كان الوضع سيستمر على حاله". وتشكلت قبل سنة مجموعة "الأمهات الأربع" للمطالبة بالانسحاب من جنوبلبنان. وتنظم المجموعة تظاهرات في انحاء اسرائيل دعماً للطلب. وهناك تغير في الرأي العام لمصلحة الانسحاب من جانب واحد، واشار استطلاع للرأي اخيراً الى ان 47 في المئة من الاسرائيليين تؤيد الانسحاب. هناك الآن ما يشير الى ان رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو يغير موقفه من القضية. وقال قبل ايام في الاجتماع الاسبوعي لحكومته ان ليس لديه "تحفظات" على الغاء الحزام الأمني. كما صرح لوفد من يهود كندا ان "اسرائيل مستعدة للقبول بقرار مجلس الأمن 425 الصادر في 1987 والانسحاب، شرط ضمان أمن السكان في الشمال وأيضا سلامة حلفائنا في لبنان". تقول اسرائيل حالياً انها تطلب من الاتحاد الأوروبي، خصوصاً فرنسا ذات العلاقات المتميزة مع لبنان، التفاوض وصولاً الى ترتيبات أمنية تسمح بالانسحاب. وأرسلت تل أبيب الى باريس، عشية جولة نتانياهو الأوروبية، أمين سر الحكومة الاسرائيلية داني نافيه ومستشار رئيس الوزراء عوزي اراد للتباحث في الموضوع. السؤال الجوهري لدى العرب، خصوصاً لبنان وسورية، هو اذا كان هذا لا يتعدى حملة دعائية أم انه يعبر عن رغبة اسرائيلية حقيقية. وكان نتانياهو طرح سابقاً مبدأ "لبنان أولاً"، في محاولة مكشوفة لفصل لبنان عن سورية. وفي الثاني من الشهر الجاري أكد وزير الخارجية اللبناني فارس بويز، وهو على حق، ان "ليس من طرف، من ضمن ذلك لبنان، يحق له اعادة النظرة في القرار 425 أو اعادة تفسيره في أي شكل من الأشكال". وكان مجلس الأمن دعا اسرائيل في القرار الذي مرت عليه عشرون سنة الى "سحب قواتها فوراً من كل الأراضي اللبنانية". لكن الوزير اللبناني يعرف تماماً أن الأمور لا تأتي بهذه البساطة. رأيت دوماً ان سياسة اسرائيل تجاه لبنان، وهو عضو مثلها في الأممالمتحدة، تشكل كارثة كبيرة، ولا حل امام اسرائيل سوى الانسحاب. وكان الراحل اسحق رابين عبر في 1994 عن موقفه بصراحة مستنداً الى خبرته كرئيس للوزراء وقائد عسكري عندما قال: "يخطىء كل من يعتقد ان لديه وصفة عسكرية لحل المشكلة في جنوبلبنان". ولو كان للحكومة الاسرائيلية بعض العقل - وكل الدلائل حتى الآن تنفي ذلك - عليها على الأقل ان تحاول تحقيق مكسب ديبلوماسي وترضي الرأي العام في الوقت نفسه عن طريق الانسحاب. أمام وزير خارجية لبنان سؤالان: الى أي حد يجب وضع آراء الشعب اللبناني، خصوصاً سكان الجنوب، في الاعتبار عند تناول القضية؟ وهل يمكن لحكومته ان تضمن فعلاً عدم انطلاق أي هجمات على اسرائيل من أراضي لبنان. الواضح ان الجيش اللبناني حالياً في وضع أفضل بكثير مما كان عليه سابقا، كما يمكن ايضا تلقي مساعدة دولية لهذا الغرض. الرأي في مجلس العموم البريطاني كما يبدو هو ان سورية هي من يملك القرار النهائي في سياسة لبنان الخارجية، ومن المستبعد ان تفرط بورقة مهمة في مفاوضات السلام مستقبلاً. وهناك الكثير من التجاوب، داخل العالم العربي وحتى خارجه، لدعوة الرئيس حافظ الأسد الى توحيد الصف العربي ضد المزيد من التنازلات لاسرائيل. مهما كان الأمر فما لا شك فيه ان عمليات حزب الله المستمرة والكلفة البشرية الكبيرة على اسرائيل ستؤدي في النهاية الى خروجها من لبنان.