تصدر خلال الأيام القليلة المقبلة عن "دار غارنت" في لندن، بالاشتراك مع "مركز الاسهام الاسلامي في الحضارة" بقطر أول ترجمة انكليزية لكتاب "البخلاء" للجاحظ في اطار سلسلة من امهات الكتب التراثية الاسلامية "الكتب الكبرى في الحضارة الاسلامية" الهادفة الى تعريف القارئ الغربي بالانجازات المهمة التي حققها المسلمون خلال تاريخهم الطويل وساهموا بها في بناء صرح الحضارة الانسانية على مر العصور. وقبل الحديث عن الترجمة الانكليزية التي قام بها البروفسور الراحل ر. ب. سيرجنت، لا بد من اعطاء لمحة موجزة عن الجاحظ وكتابه الساخر الشهير "البخلاء" من اجل ادراك الأسباب التي دفعت الى اصدار ترجمته الانكليزية في اطار مشروع "الكتب الكبرى في الحضارة الاسلامية". الجاحظ هو ابو عثمان عمرو بن بحر، لقب بالجاحظ لجحوظ عينيه. كان من شيوخ المعتزلة، وتأثر برجال الأدب والعلم في البصرة حيث ولد 160ه/ 776م. استدعاه المأمون الى بلاطه، لكن نجمه بدأ يلمع منذ اتصل بابن الزيات وزير الخليفتين المعتصم والواثق. وقد نجا الجاحظ في بداية عهد المتوكل من المصير الذي لقيه ابن الزيات مع انه كان على صلة بما أودى بمولاه. ولكنه استطاع ان يحوز رضى أحمد بن ابي داوود قاضي القضاة ومنافس ابن الزيات في الأدب والسياسة. تقلب في مناصب وعلاقات عدة الى ان أصابه الفالج في جانبه فعاد الى البصرة وفيها توفي 255ه/ 869م. وهو لم ينقطع الى مهنة يتكسب بها وانما كفاه مؤونة العيش ما كان يصله به من اهداهم مؤلفاته. وترك مؤلفات عدة نذكر منها: "كتاب العرب والموالي"، "كتاب العرب والعجم"، "كتاب الزرع والنخل"، "كتاب الصرحاء والهجناء"، "كتاب السودان والبيضان"، "كتاب النعل"، "كتاب المعادن"، "كتاب النساء"، "كتاب اللصوص"، "كتاب الفتيان"، "رسالة في الكتاب"، "كتاب الجواري والغلمان"، "كتاب القيان"… الخ. لكن أهم كتبه وأشهرها "الحيوان"، ويعتبر أولى الثمار التي انتجتها دراسة العرب للطبيعة وليس فيه الا اثر ضئيل من آثار اليونان على رغم ما نقله صاحبه عن ارسطو. والكتاب وثيق الصلة بعلم الكلام لأن المؤلف يسعى الى اظهار وحدة الطبيعة. اما الكتاب الثاني الشهير فهو "البخلاء" الذي يتناول اخبار بخلاء البصرة بأسلوب أدبي ساخر ورفيع ترك اثراً عظيماً على الكتّاب الذين جاءوا بعد الجاحظ من أمثال تلميذه المبرد صاحب كتاب "الكامل" وابن الفقيه صاحب "تقويم البلدان" والبيهقي في "كتاب المحاسن والمساوئ" و"كتاب المحاسن والأضداد". ونعود الآن الى مشروع "الكتب الكبرى في الحضارة الاسلامية" فنقول انه محاولة لتغطية القرون الثمانية الأولى من الحضارة الاسلامية أي في عصرها الذهبي من خلال ترجمة مجموعة متنوعة من أمهات الكتب الاسلامية الى اللغة الانكليزية. وتغطي هذه الكتب حقولاً متنوعة من العطاءات الاسلامية في الفقه والشريعة والفلك والبصريات والجغرافيا والتاريخ والسياسة والأدب وغيرها. وهي ليست موجهة الى الاختصاصيين بالدراسات الاسلامية فقط بل الى القطاع الأوسع من القراء الغربيين المهتمين بمعرفة عمق المساهمة الاسلامية في الحضارة العالمية. وقد حرصت الهيئة المشرفة على المشروع ان يقوم بالترجمة عالم متخصص على ان تتم مراجعتها من قبل عالم آخر يحمل المميزات العلمية المماثلة. ومن الكتب التي صدرت في هذا المشروع، أو هي قيد الانجاز النهائي حالياً: "السيرة النبوية" لابن كثير، ترجمة الدكتور تريفور لي غاسيك ومراجعة الدكتور أحمد فريد ومنير فريد. "بداية المجتهد ونهاية المقتصد" لابن رشد، ترجمة البروفسور عمران نيازي ومراجعة البروفسور محمد عبداللطيف. "احسن التقاسيم في معرفة الأقاليم" للمقدسي، ترجمة البروفسور بازيل كولينز ومراجعة البروفسور محمد الطائي. "البخلاء" للجاحظ، ترجمة البروفسور ر. ب. سيرجنت ومراجعة الدكتور عزالدين ابراهيم. "الارشاد في أصول الاعتقاد" للجويني، ترجمة الدكتورة ماري آن دانر ومراجعة الدكتور صالح الطعمة. "كتاب التيسير في المداواة والتدبير" لابن زهر، ترجمة الدكتور سامي حمارنة ومراجعة الدكتور مستنصر مير. "الأحكام السلطانية" للماوردي، مراجعة الدكتورة وفاء وهبة. "الأموال" لابن سلام، ترجمة البروفسور عمران نيازي ومراجعة الدكتور ابراهيم عويس. "الاتقان في علوم القرآن" للسيوطي، ترجمة الدكتور حامد الجر ومراجعة الدكتور عزالدين ابراهيم. وبالعودة الى كتاب "البخلاء" فإن مراجع الكتاب الدكتور عزالدين ابراهيم يشير الى ان هذه المخطوطة ظلت غير مطبوعة حتى العام 1890 عندما راجعها ونشرها المستشرق س. فان فلوتون في ليدن هولندا اعتماداً على نسخة منها في استنبول. وجرى اعتماد هذه الطبعة في نشر طبعات عدة في عدد من العواصم العربية في السنوات اللاحقة. ولكن ظهرت طبعتان اخرييان في القاهرة لهما قيمة أكاديمية هما: طبعة أحمد العوامري بك بالتعاون مع علي الجارم بك في العام 1937، وقد اعتمدا على نسخة أخرى من "البخلاء" موجودة في دار الكتب الوطنية في القاهرة. والطبعة الثانية انجزها البروفسور طه الهاجري في العام 1948، واعتمد فيها على الطبعات السابقة بالاضافة الى نسخة مخطوطة في باريس تتضمن قسماً من "البخلاء"، كما عاد الى كتب الأدب التي نقلت الكثير عن الجاحظ. اما ترجمات "البخلاء" الى اللغات الأخرى فيقول الدكتور عزالدين ابراهيم ان جزءاً منه ترجم الى الألمانية في العام 1931 على يد المستشرق و. ريشر في مدينة شتوتغارت. ثم صدرت ترجمة كاملة بالفرنسية في العام 1951 على يد المستشرق الفرنسي تشارلز بيلا. وكان من المعروف ان البروفسور ر. ب. سيرجنت وهو مستشرق بريطاني بارز عمد الى ترجمة اجزاء من "البخلاء" الى الانكليزية منذ الخمسينات كجزء من حصص الدراسة لطلابه في جامعة لندن كلية الدراسات الشرقية والافريقية. ولذلك كان من الطبيعي ان يكلفه "مركز الاسهام الاسلامي في الحضارة" بمهمة انجاز ترجمة كاملة لپ"البخلاء"… وهذا ما حدث بالفعل، على رغم ان البروفسور سيرجنت توفي في أواسط العام 1993. والترجمة الانكليزية التي ستصدر بعد أيام هي الأولى من نوعها بهذه اللغة، وقد بذل فيها البروفسور سيرجنت جهداً بارزاً نظراً الى ان "البخلاء" مليء بالمفاهيم والمدلولات التي يصعب ايجاد مرادفات مباشرة لها بالانكليزية أو بغيرها من اللغات العالمية. ومع ان الترجمة كانت مكتملة عندما توفي سيرجنت، الا ان ثمة نواقص في الهوامش والملاحظات كانت تتطلب عملاً اضافياً وقد قامت به الدكتورة وديعة نجم والبروفسور ركس سميث… حتى بات يمكننا القول ان كتاب "البخلاء" أصبح بمتناول قطاع أوسع من القراء العالميين بعد أكثر من ألف ومئة سنة على وضعه في بغدادوالبصرة.