لم يملك اي كراس سياسي في العالم التأثير الذي مارسه "البيان الشيوعي"، او "المانيفستو" لصاحبيه كارل ماركس وفريدريك انغلز. 23 صفحة بالألمانية في أواخر شباط فبراير 1848 ضمّت عبارات غدا رجالٌ ونساءٌ في العالم بأسره يرددونها: فاتحته "هناك شبح يحوّم فوق اوروبا، انه شبح الشيوعية"، وخاتمته "البروليتاريا لا تملك ما تخسره سوى قيودها، لكن في وسعها ان تربح العالم"، وما بينهما من عبارات ودعوات ك "تاريخ المجتمع القائم حتى الآن هو تاريخ الصراع الطبقي" و"يا عمال العالم اتحدوا"، تحولت كلها الى أقانيم وأيقونات أخذ بها كثيرون حتى الاعتناق وخافها كثيرون حتى الخواف. بيد ان المانيفستو لم يكن عبارات فحسب. كان اشبه بصرخة غنائية وبمناشدة دينية معكوسة تُلهب قارئها حماسة واندفاعاً. وبقوة اسلوبية وتعبيرية لا ينقصها اليقين، حدّث المانيفستو من توجّه اليهم عن عالم حولته البورجوازية جذرياً، وعن ان الرأسمالية ليست نهاية التاريخ. فهي تحفر قبرها بيدها من خلال استدعائها الطبقة النقيض تاريخياً لها، اي الطبقة العاملة والبائسة: البروليتاريا. وفعلاً حين ظهر المانيفستو كانت اوروبا، التي اطلقت الثورة الصناعية وانتجت البروليتاريا، تخوض تجربة ملحمية باهرة لم يُكتب لها النجاح. فقبل صدور الكراس بأسبوعين اندلعت الثورة التي عُرفت ب "ثورة 1848": الانطلاقة كانت من باريس على عهد تلك المدينة العاصية، لكن الشرارة امتدت الى القارة بأكملها. الرجعية الفرنسية والامبراطورية الهبسبورغية النمسوية - المجرية اهتزّت اركانهما، والبابا نفسه هرب من الفاتيكان، وحتى بريطانيا المحافظة التي خالت ان الاصلاحات الدستورية للعام 1832 قد نجّتها من مواجهة الأسوأ، وجدت نفسها أمام احتمالات السقوط على يد الحركة الشارتية. بطبيعة الحال لم تتأثر ثورة 1848 بالبيان، بيد ان الاخير تأثر بمناخها الملحمي. وهو شرع مذّاك يحظى بنفوذ متعاظم على الحركات العمالية والاشتراكية الاوروبية. فحينما استولى البلاشفة على روسيا في 1917 كان كُتيّب ماركس وانغلز قد تُرجم الى 30 لغة بما فيها اليابانية والصينية لم تكن العربية حتى ذاك الحين من بينها. وقد يقال الآن الكثير عن صلة ماركس، أحد ألمع عقول القرن التاسع عشر، بالشيوعية التوتاليتارية للقرن العشرين. وقد يقال الكثير، في المقابل، عن قطيعة هذه التوتاليتارية مع أمها الماركسية، بل قد يجوز التشكيك بالأمومة اصلاً. وفي الاحوال كافة يبقى هذا امراً خارج نطاق اهتمامنا هنا. الا ان المؤكد ان "البيان الشيوعي" كان سبّاقاً في تكهّنه بعولمة الانتاج هل يعرف شيوعيو "العالم العربي" ذلك؟، بقدر ما كان فاشلاً في توقّعه سقوط الرأسمالية الحتمي. أليس كل سقوط في الحتمية سقوطاً في كل ما يتعداها؟