حدث مع المبعوث الاميركي الى يوغوسلافيا، روبرت غيلبرت، قبيل انفجار ازمة كوسوفو الاخيرة، ما سبق ان حدث مع سفيرة الولاياتالمتحدة لدى بغداد، آبريل غلاسبي، قبيل غزو الكويت. ففي اثناء زيارة قام بها الى بلغراد الشهر الماضي، اثنى الديبلوماسي الاميركي المذكور على الرئيس سلوبودان ميلوشيفيتش لما يبديه من تعاون في شأن الملف البوسني، مشيراً، على صعيد آخر، الى ان "جيش تحرير كوسوفو" هو "دون شك مجموعة ارهابية". وهو كلام يبدو ان الديكتاتور الصربي استخلص منه ضوءاً اخضر من واشنطن يخوله الاجهاز على جيش التحرير ذاك، فكانت المواجهات المعلومة في ذلك الاقليم، وكانت تلك الازمة التي بات يُخشى تحولها الى شرارة حريق تأتي على منطقة البلقان بأسرها، مع ما قد ينجرّ عن ذلك من تداعيات لا يصعب تصورها. وفي ذلك ما يذكّر باللقاء الشهير، والذي أسال الكثير من الحبر، بين صدام حسين والسفير غلاسبي، قبيل اقدام حاكم بغداد على مغامرته الكويتية، وهو لقاء قيل بأن هذا الاخير فهم منه ان الولاياتالمتحدة لا تمانع في غزوه الامارة المجاورة، ان لم تباركه. واذا ما سلّمنا بأنه يمكن لكلام او لصمت يصدر عن مسؤول اميركي حيال وضع معين وفي ظرف محدد، ان يكون، ولو عن سوء فهم، سبباً وان عارض في تطورات بمثل هذا الشأو من الدراماتيكية، فان في ذلك ما من شأنه ان يطرح التساؤلات حول قدرة الولاياتالمتحدة على مخاطبة العالم وازماته الكامنة او البارزة، ما دامت مثل تلك القدرة على المخاطبة، فعل ديبلوماسية وفعل قوة . وبالنسبة الى الولاياتالمتحدة، وبالنظر الى موقعها في العالم، اكثر من سواها تزادد اهمية التساؤل. وقد لا يشفع لواشنطن في ذلك انها انما تقبل على شرق معقد - وبديهي ان البلقان شرق وان وضعته الجغرافيا في عداد اوروبا - بأفكار مبسطة، على ما تقول عبارة متواترة. غير انه قد لا يتعين تحميل هذا الجانب من المسألة اكثر مما يحتمل، فاذا ما وجد من سوء تفاهم، فهو قد يكون من قبل الديكتاتور الصربي متعمداً. فهو يعلم علم اليقين ان التخوف من انفجار الوضع في كوسوفو ما انفكّ يمثل هاجساً، بل كابوساً، للاسرة الدولية، ولأوروبا الغربية وللولايات المتحدة بشكل خاص، منذ نهاية الحرب الباردة، ومنذ ان آلت يوغوسلافيا السابقة، في صيغتها الفيديرالية التيتوية، الى التفكّك. وهو قد تلقى اوضح التحذيرات وابلغها في هذا الصدد منذ امد بعيد، حيث حذّره الرئيس الاميركي السابق جورج بوش، قبل ثماني سنوات، من مغبة الاقدام على اقتراف اي عنف بحق سكان كوسوفو من الألبان، مؤكداً ان من شأن ذلك ان يفضي الى التدخل العسكري. ولم يوجد، لا في موقف واشنطن ولا في مواقف بقية دول الغرب، ما من شأنه ان يدفع ميلوشيفيتش الى الاعتقاد بأن الامور قد تغيّرت، وبأن ذلك الحزم ارتبط بجورج بوش وبسياسته وزال بزوالهما. فالمخاوف المتعلقة بانفجار الوضع في مقاطعة كوسوفو تعود الى اعتبارات بنيوية، في ما يخص الجغرافيا السياسية لمنطقة البلقان. وتلك الاعتبارات ما زالت قائمة، وهي ربما كانت راهنة الآن اكثر من اي وقت مضى. فالكل يعي ان اي نزاع ينشب في كوسوفو لا يمكنه الا ان يتحول، اضافة الى فظاعته الاهلية المتوقعة الى درجة اليقين، الى نزاع حولها يزجّ لا محالة بأكثر من طرف اقليمي في أتونه، بما قد يجعل من الحرب التي شهدتها البوسنة قبل سنوات خصومة صغيرة محدودة. ذلك انه اذا ما امكن لحرب البوسنة ان تبقى في نهاية الامر، محدودة، بالرغم من ضلوع طرفي الجوار الرئيسيين، صربيا وكرواتيا، فانه من المستبعد لنزاع ينشب في كوسوفو ان يحافظ على صفته الاهلية او ان تبقى تلك الصفة هي الغالبة عليه. فغالبية سكان كوسوفو ليست فقط من المسلمين، ممن لا يمكنهم التعويل الا على شيء من تعاطف على قاعدة الانتماء الديني، سواء على مستوى البلقان او خارجه، ولكنها الى ذلك من الألبان، ممن لا يمكن لألبانيا المجاورة، ولا لبقية المجموعات الألبانية الموزعة على بلدان المنطقة، ان تلزم موقف اللامبالاة حيال ما قد يصيبهم. فنحن في البلقان حيث الرابطة العرقية، خصوصاً اذا ما غذتها رابطة دينية، مصدر اضطرابات ومواجهات لا يردعها رادع. أضف الى ذلك ان نزاعاً من قبيل ذلك الذي يخشى نشوبه في كوسوفو قد ينعكس سريعاً على اطراد غير تلك المعنية به بشكل مباشر. اذ يمكنه ان ينعكس على بلد مثل مقدونيا، وعلى علاقة هذه الاخيرة باليونان، التي تكاد لا تعترف باستقلالها، بل ان ذلك قد يمس حتى تركيا. والمشكلة، في ما يخص مسألة كمسألة كوسوفو انه من الأفشل، في انتظار ان تنضج الظروف لحلها ديموقراطياً، ان تبقى في حالة سبات، لأنها اذا ما استيقظت او أثيرت فإنها لا يمكنها الا ان تبلغ الاقصى، طالما ان عناصر المساومة فيها وبشأنها منعدمة او بالغة الضآلة. ذلك ان مقاطعة كوسوفو تحتل حجر الزاوية في "الأساطير المؤسسة" للأيديولوجيا القومية الصربية، الحاكمة حالياً في بلغراد والمتمكنة من مشاعر رأيها العام. فالمقاطعة تلك، بالنسبة لذلك الهذيان الايديولوجي، هي المنبع التاريخي للعرق الصربي، ومهد امجاده التليدة. وفيها قامت مملكة صربية قضى عليها الأتراك العثمانيون قبل ما يزيد على ستة قرون. وهي بذلك تكثف ضغائن ثأرية تجد في سكان المقاطعة من الألبان المسلمين مادتها الأثيرة. لذلك، بدأ سلوبودان ميلوشيفيتش مساره كزعيم قومي بخطاب ألقاه في كوسوفو في 1987. ولذلك ايضاً كان إبطال نظام الحكم الذاتي الذي كانت تتمتع به المقاطعة في العهد الشيوعي من بين اولى الخطوات التي أقدم عليها. ومثل هذه النظرة تحمل في طياتها حتماً مبدأ التطهير العرقي، بالقوة دوماً، وبالفعل لدى أول مناسبة. اما اغلبية سكان كوسوفو من الألبان المسلمين فيرون في تلك الأرض ارضهم، ولا يعتقد بأنهم سيرضون بما دون الاستقلال، او بما دون حكم ذاتي واسع الصلاحيات، ناهيك عن اخلاء تلك الأرض. كل ذلك، وما له من مضاعفات اقليمية محتملة وما يثيره من مخاوف على الصعيد الدولي، لا يعتقد بأنه مما لا يعلمه الديكتاتور الصربي او مما يستهين به. وهو اذا ما أقدم مع ذلك على اطلاق حملته القمعية الاخيرة في كوسوف، تلك التي اوقعت 80 قتيلاً منذ اواخر شباط فبراير الماضي، فإنه يصعب تصور انه قد فعل ذلك استناداً الى تصريح مسؤول اميركي. رأى فيه ضوءاً اخضر يسوّغ له افعاله مسبقاً. الارجح ان الرئيس الصربي قد استخلص بعض الدروس من التطورات الدولية الاخيرة وخصوصاً من ملابسات الازمة مع العراق، فرأى بأن الظروف باتت ملائمة للتحرك. فهو قد رأى مدى صعوبة تحقيق الاجماع الدولي حول اسلوب مواجهة حكم بغداد. وهو لاحظ ما لاقته الولاياتالمتحدة من عسر في فرض خياراتها على بقية اعضاء الأسرة الدولية، ومدى المسافة التي اصبحت تفصل بين الديبلوماسية الروسية ونظيرتها الاميركية. وهو لا شك استنتج انه اذا ما جرت الأمور على هذا النحو بالنسبة لحاكم مثل صدام حسين، فإنها ستكون حتماً أهين بما لا يقاس بالنسبة الىه، هو الذي لم ينله ما نال نظيره من أبلسة. وإذا ما وجدت مثل هذه الرهانات لدى الرئيس الصربي، فإنه لا بد من الإقرار بأنها، على ضوء ردود الفعل التي ووجه بها حتى الآن، ليست بعيدة عن الصواب. فقد التأمت بلدان مجموعة الاتصال حول يوغوسلافيا السابقة الولاياتالمتحدةوروسيا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا يوم الاثنين الماضي في لندن فاستنكرت واتخذت من الاجراءات في حق بلغراد ما لا يعتقد انه سيقض مضجعها. صحيح ان واشنطن تصلبت، لكن وسائل الضغط الفعلي غير متوافرة لديها. اما أوروبا الغربية، فتوصلت، على ما هو ديدنها، الى ذلك الضرب من "الاجماع الرخو"، على ما وصف ديبلوماسي اميركي، واما روسيا، فما كادت تغالب حماستها في اعلان مناصرتها لصربيا. وعندما عرضت القضية على مجلس الامن، يوم الثلثاء الماضي لمجرد استصدار اعلان صحافي، وجد ميلوشيفيتش في الصين حليفاً له غير متوقع، حال دون اصدار الاعلان بدعوى ان ما يجري في كوسوفو مسألة داخلية. فقد خشيت بكين ان يؤدي مثل ذلك الاعلان الى سابقة تسمح لاحقاً بمساءلتها هي بشأن التيبت مثلاً. وهكذا، فانه ليس في عناصر ومكونات الوضع الدولي كما هو قائم حالياً ما من شأنه ان يردع سلوبودان ميلوشيفيتش، او من هم على شاكلته ومن قبيله من اللاعبين بالنار او ممن يستهويهم هذا الضرب من المغامرات، ولذلك لا يوجد ما يحول دون توقع ان تتحول مشكلة كوسوفو الى ازمة مقيمة، على العالم ان يستعد للتعايش معها طويلاً، وليس ما يمنع ظهور مغامرين آخرين من نفس الطينة هنا او هناك في مختلف بقاع الارض. وقد يكون ذلك، بوجه من الوجوه وبشكل من الاشكال، من نتائج الازمة الاخيرة مع العراق، وسوء ادارتها اميركياً ودولياً.