غرقت باخرة تيتانيك مرة واحدة في التاريخ قبل 86 عاماً. لكن ركابها ال2223، الناجون منهم 700 والغرقى 1500 على السواء، لا يزالون يعومون حتى أيامنا هذه على صفحات الجرائد والشاشات. واليوم اكثر من أي وقت مضى، ومع تحطيم فيلم جيمس كاميرون الارقام القياسية بكلفة الانتاج 250 مليون دولار وعلى شباك التذاكر تجاوز رقم ايراداته بليون دولار وبترشيحاته الى جوائز الاوسكار 14 ترشيحاً، عاد اللبنانيون يتذكرون ضحاياهم على الباخرة بالتدفق سيولاً لمشاهدة الفيلم الذي سجّل 110 آلاف مشاهد في الاسبوعين الأولين، وبنبش غرقاهم من الامواج... والتراب. والصحافة شاركت في شكل واسع في عملية الاحياء هذه خصوصاً ان من السهل البحث عن جذور واقرباء للركاب اللبنانيين ال125 الذين كانوا على متن "تيتانيك" في بقعة جغرافية صغيرة مثل لبنان. وبالاخص ان تلك البقعة كانت أصغر العام 1912، تاريخ غرق الباخرة، وكانت قبل اعلان دولة لبنان الكبير العام 1920 اسمها جبل لبنان المتاخم لسورية الكبرى... وربما لهذا السبب لا يزال يرد في الصحف الاجنبية والمراجع كلمة "سوريين" عند الاشارة الى الركاب العرب من دون ذكر اللبنانيين. علماً ان هؤلاء شكّلوا اكثر من خمسة في المئة من مجمل ركاب الباخرة، وهو رقم كبير مقارنة بعدد سكان الدول المشاركة في الرحلة "التاريخية". ولو ان كاميرون أنجز فيلمه قبل سبعة اعوام لكان ربما عثر على لبنانيين ناجين لا يزالون احياء، وأقله على واحد هو جورج توماس من تبنين، كان في الرابعة عندما نجا من حادث الغرق مع أمه وأخيه وعاش في ميتشيغن الاميركية الى ان توفّي العام 1991 عن عمر يناهز ال 86. ومع هذا، استطاعت الصحافة اللبنانية انتشال اسماء كثيرة من النسيان فأعادتها الى ذاكرة الحدث والحاضر. ومن ال 125 راكباً لبنانياً المتحدرين من 15 ضيعة ومدينة لبنانية لم ينج الا 23 محظوظاً: أربعة رجال والباقون نساء وأطفال. فمن المعلوم ان النساء كنّ اكثر حظاً لأولوية انزالهن مع الاطفال على قوارب النجاة خصوصاً ان اللبنانيين كانوا جميعاً من ركاب الدرجة الثالثة الذين منعوا في الساعات الاولى من الصعود الى الزوارق... والجميع كان يقصد "العالم الجديد" هرباً من الضيقة الاقتصادية في ظلّ حكم العثمانيين وشبح الجوع المهيمن، طامحين الى جمع الثروة وإعالة العائلة، بعدما بلغتهم رسائل ممن سبقوهم في أواخر القرن التاسع عشر: "إحضروا الينا لقد هيأنا لكم مكاناً للنوم وآخر للعمل"، كما ورد على لسان اهل ضيعة حردين في شمال لبنان، وهي وحدها فقدت 11 شاباً من مسافريها العشرين ونجا شاب وحيد منها هو مبارك عاصي استطاع ان يختبىء تحت فستان فضفاض لامرأة أجنبية أشفقت عليه فانضم بهذا الى قافلة النساء والاطفال الناجين من بلدته وعددهم سبعة. ومن مبارك هذا الذي لم يعد قط الى لبنان، وصلت اخبار الشباب الضحايا الحردينيين على انهم بقوا حتى الدقيقة الاخيرة يدبكون على أنغام المجوز في صفّ واحد متماسكي الايدي، متراصين، شامخين... ولا تزال بيوت حردين المائلة الى الخراب اليوم تشهد على حلم ازدهار تكسّر مع امواج الغربة جارفاً سقوف قرميد لم ترتفع. وحدها لبنانية من زغرتا عادت وأكملت الحلم الذي كانت بدأته مع زوجها قبل ان تودّعه أمام باخرة "تيتانيك"، لأن السلطات الفرنسية رفضت السماح لأولادها المصابين بمرض الجدري بالصعود على متن الباخرة "السليمة والصحية". وقتها قال بطرس لكعوة لزوجته منّة: "أسبقكم الى الولاياتالمتحدة وانتم تعودون الى لبنان وحين يتعافى الاولاد تلحقون بي". فكان ان غرق بعد اربع ساعات، وكان ان خسرت بعده منّة ابنتها الوحيدة بسبب المرض فوضعت ولديها في عهدة عمتها في زغرتا وعادت الى الولاياتالمتحدة لتحقق حلم زوجها. وبعد عذاب كبير وفقر مدقع عاشته في بداية الغربة عادت بعد 39 عاماً الى بلدها لتشهد عمادة احد احفادها وتورث ولديها ثروة مكنتهم من بناء بيوت لسائر اولادهم... واستقرّت منّة نهائياً في لبنان منذ تاريخ عودتها وحتى مماتها العام 1979. والاخبار عن لبنانيي "تيتانيك" كثيرة واحياناً ملتبسة ومتضاربة لغياب التأريخ ولشحّة المعلومات "العائدة" من الولاياتالمتحدة. فالرسائل لم تكن "تطير"، والزمن بلع معظم التفاصيل ولم يتسنّ للناس توارثها كما ينبغي لان طبول الحرب العالمية كانت تقرع واستحوذت على كل اهتمام، والجوع كان مخيّماً على البلاد وتأمين الرغيف كان الهاجس، خصوصاً لان قلّة من الناجين رجعوا الى لبنان أو رغبوا في ذلك. فمثلاً حنّا ماما من زغرتا، أمضى حياته في الغربة قائلاً "عندما يبلّطون البحر أرجع الى لبنان". وهو لم يكن يمزح فقد سبح في مياه المحيط الاطلسي منتظراً الباخرة "كارباتيا" لتنتشله، وهو بهذا يكون أمضى في المياه الجليدية ضعفي الساعات الاربع التي أمضاها على متن "تيتانيك". وكأنه ذهب سباحة الى الولاياتالمتحدة. وهو أمضى حياته هناك مريضاً وغير مستعدّ للقيام بالرحلة نفسها إياباً! ومن اللبنانيين الناجين القلائل الذين عادوا الى وطنهم سلطانة رزق من سرعل، لكنها عادت اليه مجنونة بعدما فقدت ابنها فعاد ابنها الآخر من المهجر واصطحبها معه. وهناك ناجية اخرى اسمها أمينة اضطرت بعد إنقاذها الى العودة الى لبنان وفق نصيحة الاطباء لاصابتها بمرض السلّ الخبيث فماتت فيه عن 33 عاماً. اما الناجية اللبنانية الثالثة التي عادت وربما الاخيرة فكانت من كفرمشكي واسمها زاد نصرالله، ماتت في موطنها لبنان لكن ابناءها لم يعودوا. ومن القصص اللبنانية الغريبة المرتبطة باسم "تيتانيك" قصة ضاهر شديد ابي شديد من شمال لبنان الذي هرب من ضيعته بعدما قتل صبية من دون قصد، فأقلّته "فلوكة" من سلعاتا الى قبرص فشاربورغ الفرنسية ليقضي غرقاً في المحيط الأطلسي على بعد نحو 60 كيلومتراً من "العالم الجديد" الذي وعد نفسه به... ويروي المعمّر نعمة الله طنّوس الخوري من كفرصغاب قصة غريبة اخرى هي قصته مع 34 شاباً من الضيعة نفسها نجوا بضربة حظ من الانضمام الى لائحة ضحايا الباخرة المشؤومة التي كادوا ان يصعدوا الى متنها لولا مرض احدهم بطرس القسيس فقرروا جميعاً تأجيل الرحلة ريثما يشفى. الا ان هذا لم يمنع اهل القرية من تشييع ابنائها ال35 على اثر سماعها بخبر غرق "تيتانيك"، قبل ان يعودوا ليبتهجوا في الايام التالية. تلك بعض من قصص طواها الزمن اللبناني في مذكرات غرق أفخم وأضخم باخرة شهدها التاريخ. ربما لم تكن اهمّ القصص على الاطلاق لكنها كل ما بقي. والقصة الاكبر تروي حكاية شعب تعوّد منذ عهد اجداده الفينيقيين ركوب البحر للبحث عن الحظ بعيداً عن شاطئه. غرق باخرة "تيتانيك" لم يثنِ ذلك البحار الأبدي عن حبّه للمغامرة.