الرجل الذي أعدم في موسكو صبيحة يوم 14 اذار مارس 1938 كان حتى فترة قصيرة من الزمن، من رفاق ستالين ومن ألمع اقتصاديي وسياسيي الحزب الشيوعي السوفياتي. وهو، حتى اعتقاله وبداية محاكمته، كان الكثيرون يتوقعون له مستقبلاً سياسياً كبيراً قد يوصله ذات يوم الى أعلى المراكز في الدولة السوفياتية الناهضة. لكن نيقولاي بوخارين أعدم في صبيحة ذلك اليوم مع ألكسي ريكوف وغنريخ ياغودا وسبعة عشر آخرون من كبار كوادر الحزب الشيوعي السوفياتي بتهمة الخيانة والتآمر. صحيح ان ستالين كان، في تلك السنوات الدموية، قد اعتاد على التخلص من خصومه بنفيهم أو ابعادهم او اعدامهم، او ارسال من يقتلهم غيلة، بحيث انه خلال فترة قصيرة من الزمن أجهز على كل من كان يمت بصلة الى لينين او الى ثورة العام 1917، غير ان اعدام بوخارين كانت له نكهة اخرى، دفعت الكثير من الشيوعيين في الاتحاد السوفياتي وفي العالم كله الى الاحساس بكثير من المهارة. فبوخارين كان ينظر اليه على انه "فتى الحزب الشيوعي الأغر"، وكان مقرباً جداً من ستالين، حيث كان يمضي معه عطل نهاية الاسبوع في "الداتشا" المخصصة له، وكان ستالين قد ميزه بان سمح له بان يلقي في احد المؤتمرات العالمية في فيينا، محاضرة جريئة ومفاجئة حول "الاتنيات في الاتحاد السوفياتي"، ناهيك عن ان نيقولاي بوخارين كان هو الذي صاغ الدستور السوفياتي الذي كان ستالين لا يكف عن ابداء افتخاره به باعتباره واحداً من أهم الانجازات الفكرية للحزب وللدولة. غير ان ذلك كله لم يشفع لبوخارين، الذي كان يومها قد بلغ الخمسين من عمره. فاذا به متهم بالخيانة وبالتآمر، ويقاد الى السجن مع رفاقه بعد ان تعتقله قوات وزارة الداخلية الشرطة السرية مخفوراً محطماً كما نشاهد في الصورة المرفقة. والحقيقة ان محاكمة بوخارين كانت المحاكمة التي تابعتها أجهزة الاعلام اكثر من غيرها، من هنا كانت الاشهر بين جميع المحاكمات الستالينية التي طالت رفاق لينين، ولا سيمات منهم الذين اتهموا بكونهم مؤيدين لتروتسكي، وكانت تهمة بوخارين الاساسية انه مناصر لتروتسكي، وهو ما لم يكن صحيحاً على اي حال. بالنسبة الى السلطة، لان محاكمة بوخارين كانت محاكمة شديدة الاهمية، كان من الضروري ان معيار يصار الى توفير اخراج جيد لها، وهكذا كان، حيث قام جيجوف، رئيس الشرطة السرية بتنظيم المحاكمة بنفسه، وكان أولريخ، رئيسا للمحكمة، اما دور النائب العام فقام به فيشينسكي، الذي سيحل بعد سنوات محل مولوتوف كوزير للخارجية. ولقد آثر ستالين ان يحضر المحاكمة بنفسه لأهميتها، ولكن من دون ان يعلن عن حضوره، فهو الذي كان قد سبق له ان حضر المحاكمات السابقة من غرفة مكتبه، سماعياً، وقد مدت اليها ميكروفونات ومكبرات صوت، شاء بالنسبة لمحاكمة بوخارين ان يحضرها من غرفة صغيرة مجاورة لقاعة المحكمة، فتحت عليها عبر جدار زجاجي سميك وملوّن بحيث يتيح لستالين الجالس في الظلام ان يشاهد ما يحدث داخل قاعة المحكمة من دون ان يشاهده احد، ويروي الديبلوماسي فيتزرودي ماكلين الذي كان يحضر جلسات المحاكمة، انه تعرف على ستالين وادرك وجوده من خلال سيجاره الذي كان يكشف عن شاربيه في الظلام في كل مرة اشتعل فيها. المهم ان المحاكمة دارت كما كان متوقعاً لها، وخلال اسبوع بكامله اخضع بوخارين ورفاقه لسلسلة من التحقيقات العنيفة والقاسية التي مكنت المحققين من ان يحصلوا على اعترافات وصفت يومها بانها مذهلة. ويروى ان بوخارين قد حافظ على رباطة جأشه طوال فترتي التحقيق والمحاكمة، وهو لم ينهر الا في اللحظة التي راح فيها رجال الشرطة يسيئون معاملة زوجته الحسناء آنا 24 سنة وابنه الوليد. اما بالنسبة للمتهم الثاني بعد بوخارين، نيقولاي كريستنسكي، الذي كان قد عرف بصداقته للينين وبكونه واحد من خمسة اعضاء في اول مكتب سياسي للحزب الشيوعي، فانه فاجأ المحكمة بنكرانه كل الاعترافات التي كانت قد سجلت بخطه. هنا أوقفت المحاكمة ريثما أعيد كريتنسكي الى عهدة رجال الشرطة السرية الذين "اقنعوه" بالعودة عن النكران فامتثل ! وقدم في اليوم التالي اعتذاراته مقراً بالجرائم المنسوبة اليه. اما بوخارين فقد اختار استراتيجية اخرى: لقد بدأ بالاعتراف بكل ما نسب اليه، لكنه كان سرعان ما يحول كل جملة من الجمل المنسوبة اليه الى وسيلة للسخرية منكراً في نهاية الامر ان يكون ما فعله اجراماً. وهذا ما اغضب فيشنسكي وأخرجه عن صوابه، في نهاية الامر كان لا بد من ان يصدر الحكم بالاعدام على بوخارين ورفاقه، فصدر الحكم. وهنا أخذ بوخارين ورقة صغيرة جعل منها رسالة بعث بها الى ستالين وحملت جملة واحدة فقط هي: "كوبا... ما الذي يجعلك بحاجة الى موتي؟". ولكن هذا كله كان دون جدوى، حيث اعدم بوخارين ورفاقه صبيحة يوم 14/3/1938 وانتقل ستالين بعد ذلك باحثاً عن ضحايا اخرى.